هذه الأمة لن تموت أبداً ..  

بقلم محمد حسن العرادي – البحرين

الجمعة 27 ديسمبر 2024

في أعقاب ما سمي بالربيع العربي الذي ساهم في تهشيم وتحطيم العديد من الدول العربية لاسيما القوية منها، طفت على السطح تعبيرات تقسيمية انفصالية عبرت عن ضيق أفق وانعزالية قُطرية كبيرة، ساهم في تكريسها بعض المتأثرين بالتفوق الغربي، وانطلقت في أغلب الدول العربية نغمات نشاز تنادي بالقُطرية أولاً، وهكذا انتشرت ثقافة اللامبالاة وعدم الاهتمام بالترابط العربي المصيري على كافة المستويات، لقد أصبحت الأمة العربية مجموعة أمم كل يدافع عن حدوده القُطرية الضيقة، غير عابئ بالترابط والإهتمام بما يحدث في بقية الدول العربية مهما كانت الروابط والمشتركات وحتى الظروف الجغرافية الواحدة.

لقد نجحت تلك الدعوات التجزيئية في تفتيت الأمة وتقسيمها إلى دول مشغولة بنفسها، فانشغلت كل دولة بمشاكلها الداخلية السياسية والاقتصادية، والمعيشة على وجه الخصوص وهكذا فقدت الشعوب العربية الشعور بالمسؤولية الجماعية، وتراجعت أهمية الاتفاقيات الموقعة بين مختلف الدول العربية خاصة في مجال الدفاع العربي المشترك، الأمن المائي، الأمن الغذائي والاستراتيجي، ولعل الهاجس الوحيد الذي بقي طاغياً وعلى درجة عالية من التنسيق هو الهاجس الأمني والاستخباراتي، حيث احتفظت أغلب الأجهزة الأمنية بعلاقات متينة قائمة على تبادل المعلومات الأمنية والتشارك فيها، وخاصة فيما يتعلق بالتضيق على المواطنين العرب وملاحقتهم ومحاصرتهم والتحقيق معهم، وكأنهم يشكلون الخطر الأكبر، مما اتاح الفرصة لأعداء الوطن العربي للتغلغل والنفاذ لمراكز القرار العربي.

وكان لافتاً أن هذا التنسيق الأمني العالي المستوى قد شهد استثناءات وربما اخفاقات تتعلق بالارهاب، سهلت تحرك الجماعات الإرهابية المسلحة التي تسير في فلك المصالح الأمريكية والصهيونية العالمية، عابرة حدود الدول العربية، متآمرة مع القوى الأجنبية ضد الكبرى والاقليمية، لتنفيذ أجنداتها الطامعة للهيمنة والسيطرة، وقد ساهم ذلك الاستثناء في تحرك جحافل الإرهابيين وتنسيقهم مع القوى الدولية المعادية للاطاحة بعدد من الدول العربية الوازنة، تلبية لمصلحة الصهيونية العالمية التي أرادت ترسيخ التفوق الصهيوني حتى يسهل على دولة الاحتلال الاندماج في المحيط العربي والامساك بتلابيب قراراته بالتنسيق مع أمريكا والغرب، حدث ذلك عندما أسقطت الأنظمة في كل من العراق، السودان، تونس، ليبيا، اليمن وسوريا، وفي أقل الأحوال نجحت هذه المؤامرات بإثارة القلاقل والمشاكل الأمنية للدول العربية المؤثرة كما حدث في مصر والجزائر على سبيل المثال لا الحصر.

لقد هيمنت المخابرات الأمريكية CIA على المشهد في أغلب الدول العربية وراحت توزع الأدوار وتسهل تنقل الإرهابيين بالتعاون مع تركيا ودول أوربية أخرى من ساحة عربية إلى أخرى، وهكذا أصبح لدى المخابرات الدولية جيوش من المرتزقة الجاهزة (قوات تدخل سريع) تقدر أعدادها بمئات الآلاف، جاهزة للتحرك وتنفيذ المهام القذرة ضد أي نظام عربي يتم تصنيفه (معارض للهيمنة الأمريكية)، وهكذا تدفق الإرهابيين من تركيا إلى أي من البلاد العربية، فتم نقل السلاح من ليبيا الجريحة إلى سوريا المستباحة، ثم نقل المقاتلين المرتزقة من سوريا المحاصرة إلى ليبيا والعراق، من أجل الإنتقام من تلك الأنظمة التي لم تكن تدور في الفلك الأمريكي حينها.

لقد شوهدت المروحيات العسكرية الأمريكية غير مرة، وهي تنقل السلاح والمرتزقة الإرهابيين من مكان إلى آخر بين سوريا والعراق، في واحدة من أكثر قضايا النفاق الدولي فجاجة، حيث تعلن أمريكا بأنها تحارب داعش وأخواتها من التنظيمات الإرهابية، بل وترصد المكافآت المالية الكبيرة للقبض على قياداتها وعناصرها الفاقعة الظهور، لكنها في ذات الوقت تقوم بتسهيل تحركاتهم وحمايتهم، وتعمل على تدريبهم وتجهيزهم واسنادهم ومدهم بالسلاح والعتاد وكافة المساعدات اللوجستية، وترسل لهم صور الأقمار الصناعية الدقيقة تحركات القوات التي تقاتلها، وبحسب الحاجة الميدانية كانت أمريكا تستبدل الشخصيات الإرهابية القيادية عندما تستنفذ أدوارها، مدعية بأنها قامت بتصفيتها ضمن توجهات لمحاربة الإرهاب، كما حدث مع أسامة بن لادن، أبو مصعب الزرقاوي، ابو بكر البغدادي ومن خلفهم في المواقع القيادية.

لقد لعبت أمريكا دور الشرطي الفاسد والحرامي الشريف في الوقت ذاته، فهي التي تحتل الأراضي وتقيم القواعد العسكرية في سوريا والعراق وباقي الدول العربية، لضمان تدفق النفط وتمويل الحركات الإرهابية من خلال قواعدها التي تمثل مقرات وملاذات أمنة لمرتزقتها من الإرهابيين، كما حدث في قاعدة التنف السورية، وكما يحدث في باقي المناطق السورية التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية – قسد، حيث تحتل القوات الأمريكية حقول النفط السورية الكبرى ومن بينها حقل العمر أكبر الحقول النفطية في سوريا والذي يقع في محافظة دير الزور، وحقل التنك ثاني أكبر الحقول النفطية في سوريا ويقع في محافظة دير الزور أيضاً، وحقل رميلان، الواقع في محافظة الحسكة، وحقل العزبة الواقع في محافظة دير الزور.، وجميعها تقع في مناطق سيطرة قوات قسد، المحمية من قبل القوات الأمريكية بصوره مباشرة، من احل توفير التمويل والدعم المالي المريح للجماعات التي تدور في فلك سياستها العدوانية.

ولا تكتفي أمريكا بتوفير الملاذات الآمنة لقوات المرتزقة والعصابات الإرهابية، بل انها تعمد الى إقامة وإدارة السجون التي تعج وتضج باعداد كبيرة منهم، تربيهم وتطعمهم وتسقيهم وتعدهم للانقضاض على الدول غير الدائرة في فلكها في الوقت المناسب، كما يحدث في السجون التي تديرها قسد والتي يقال بأنها تضم أكثر من 12 ألف مقاتل على أهبة الإستعداد لمهاجمة العراق بغية أسقط نظامها كما أسقطت نظام الأسد في سوريا، ودون شك فإن أمريكا قد حققت نجاحات باهرة في إدارة المعارك بجيوش من المرتزقة والأموال جميعها من المنطقة، فهي لا تخسر مال أو عتادا أو جنودا، بل تخطط وتوجه الآخرين لخدمة مصالحها.

أما وقد إنكشفت الصورة بشكل فاضح، فإن الوقت قد حان لإعادة التفكير لوضع مشاريع مقاومة فكرية وتربوية مختلفة، تعيد الاعتبار لهذه الأمة العربية، وتساهم في تحرير قراراتها السيادية، وأهمها الحق في التنسيق والوحدة وإقامة المشروعات المشتركة، ودون شك فإن ذلك بحاجة إلى بناء قاعدة عربية ثقاقية جديدة ومتينة، وقد يكون التشبيك بين المنظمات والاتحادات العمالية والمهنية والنوعية والجمعيات والأحزاب العربية بداية مناسبة لها، اضافة إلى فتح حوارات بينية جادة حتى تتمكن هذه الامة من مداواة جراحها والانطلاق لبناء مستقبل خارج الهيمنة الأمريكية والابتزاز الصهيوني، فهذه الأمة لن تموت أبداً .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى