البازار النووي الإيراني… إلى أين؟

عيسى سيار *

لا يكاد الموضوع النووي الإيراني يختفي تحت سطح الأحداث السياسية بسبب أولويات وأجندة الإدارة الأميركية الجيواستراتيحية وأجندة الكيان الصهيوني الجيوسياسية عسكرية، حتى يطفوا مجددًا على السطح، وهو من وجهة نظري أشبه “بالبازار” وهو مصطلح يطلق على السوق فى إيران!؟ ففي السوق تجد العرض والطلب، وبالتالي المساومة، وتجد من ينادي على بضاعته لكي يجذب الزبائن عليها وتجد فى ركن آخر من السوق منطقة المزايدة على البضائع او ما نطلق عليه بالعامية “الحراج” وتجد التكتلات التجارية العلنية والمبطنة من أجل التحكم فى الأسعار… الخ. هكذا هو حال الموضوع النووي الإيراني، ما بين مطالبات أميركا والغرب ووكالة الطاقة النووية لإيران بالواقعية في الكشف عن نشاطاتها النووية، وما بين البرجماتية الإيرانية وسياسية الغموض الايجابي الذي تتبعه إيران فى هذا الصدد.

تصدر بين الفينة والأخرى تصريحات عن الكيان الصهيوني، بأن مستوى تخصيب اليورانيوم في إيران تجاوز ال %60 وهناك من يزايد من القادة الصهاينة واليمين الأميركي المتطرف ويذهب إلى أن مستوى التخصيب وصل ال 90% وان إيران قاب قوسين أو أدنى من صنع السلاح النووي، وبالمقابل تصدر تصريحات عن البيت الأبيض، وعلى وجه التحديد خلال حكم الديموقراطين، بأنه لا توجد مؤشرات على قدرة إيران لإنتاج السلاح النووي، وتارة أخرى يتحدث الكيان الصهيوني عن ضربة عسكرية وشيكة للمفاعلات النووية الإيرانية.

وهذا هو حال “البازار” النووي الإيراني منذ أكثر من ثلاثة عقود فى ظل سياسة إيرانية برجماتية بإمتياز، تتسم كما ذكرنا بالغموض الإيجابي وتتراوح ما بين التشدد تارة بالنسبة الى حقها المبدئي بتخصيب اليورانيوم وانتاج السلاح النووي التكتيكي للدفاع عن نفسها ومصالحها الجيوسياسية، وما بين التهدئة تارة أخرى، حيث التصريحات التي تؤكد بأن النشاط النووي الإيراني لأغراض سلمية بحتة! والوضع الأكثر صعوبة على كافة الأطراف المعنية: ماذا لو أن إيران وفي خضم هذا البازار بالفعل أنتجت السلاح النووي!؟ مجرد سؤال أو فرضية جدلية يقدمها الباحث! هذه الفرضية سلطت عليها الضوء الوكالة الدولية للطاقة الذرية حيث كشف تقرير سري وزعته الوكالة أخيرا بأن طهران سرعت من وتيرة إنتاج اليورنيوم المخصب بنسبة 60%، حيث قامت بتخزين حوالى 408 كيلوغرام، وهذه زيادة بواقع 133.8 كيلوغرام منذ آخر تقرير أجرته الوكالة في فبراير الماضي، ونتيجة لذلك أوضحت الوكالة بأن إيران قريبة من القدرة على إنتاج السلاح النووي، حيث أن النسبة الصالحة لإنتاجه هي 90%، ودعت إيران للتعاون معها في التحقيقات التي تجريها.

وبعد فترة وجيزة من وصول الرئيس ترمب إلى الرئاسة طفى النووي الإيراني على السطح من جديد وبقوة غير مسبوقة بعد أن غيبه العدوان الصهيوني على غزة أبان عهد بايدن، حيث منح ترمب إيران مهلة شهرين من خلال رسالة بعثها للمرشد الإيراني علي خامنئي، وخيرهم ما بين أمرين: أما المفاوضات المباشرة للتوصل إلى حل سياسي يفضي إلى تجريد إيران من برنامجها النووي، وإما ضرب المفاعلات النووية الإيرانية من خلال ضربة عسكرية صهيونية بغطاء أميركي، حيث أكدت وكالات الأنباء العالمية بأن ترمب أوقف مرتين على الأقل خطة عسكرية صهيونية وشيكة لضرب المفاعلات الإيرانية.

والسؤال المحوري هنا: هل تنجح الضغوط الأميركية المفرطة في تجريد إيران من نشاطها النووي العسكري، ام ستنجح البرجماتية الإيرانية كالعادة في الرهان على الوقت في تجاوز هذه الضغوطات والالتفاف عليها كما حصل ذلك في عهد أوباما وفترة حكم ترمب الأولى.

أن إيران تعلم جيدا بأن ترمب الذي ألغى بجرة قلم عام 2018 الاتفاق النووي الذي وقع في عهد أوباما، جاد هذه المرة فى تهديداته العسكرية، فى ظل تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة بعد خسارته لسوريا وتراجع قدرات حزب الله اللبناني سياسيا وعسكريا، خاصة بعد تصفية قياداته من الصف الأول والثاني،كما وخسارته لليد الطولى فى السياسة الداخلية اللبنانية بعد استلام جوزاف عون مقاليد الحكم بدعم غربي وخليجي غير مسبوق، وتكليف نواف سلام برئاسة الحكومة الذي يعمل جاهدا على احداث توازن تكتيكي في السياسية اللبنانية تقوم على مبدأ لا إفراط ولا تفريط في مصالح لبنان الجيوسياسية والاقتصادية، كما يحاول العراق وتحت الضغط الأميركي الترامبي غير المسبوق تقنين دور الحشد الشعبي ولجم جموحه غير المرغوب فيه غربيا وعربيا ومن جهة أخرى النأي بسياساته عن النظام الإيراني والاصطفاف من جديد تحت المظلة العربية والتي ينتمي إليها قلبا وقالبا، وذلك من خلال سياسة تقوم على تصويب وترشيد العلاقة مع النظام الإيراني واحداث توازن ما بين الاستقطابين الايراني والعربي، كما يعيش اليمن حالة من عدم الاستقرار السياسي بعد الضغوطات العسكرية غير المسبوقة التي تمارسها أميركا والكيان الصهيوني عليه ودون شك سوف يكون موضوع وقف تسليح الحوثين من قبل إيران على طاولة المفاوضات الأميركية- الإيرانية.

لقد انقضت مهلة الشهرين التي حددها ترمب كسقف زمني لإيران للتخلص من برنامجها النووي ومعها انتهت خمس جولات من المفاوضات الأميركية الإيرانية التي تصفها إيران بغير المباشرة! وذلك برعاية عمانية وعيون العالم مسلطة عليها بشكل عام والكيان الصهيوني بشكل خاص، وسوف تتبعها جولات أخرى، كما ذهب إلى ذلك وزير خارجية إيران وحتى الآن التصريحات تذهب إلى ان المباحثات معقدة، ولكن يصفها الجانبين بالجيدة النتائج، ولكنهما لم يفصحا عن أي تفاصيل تذكر، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستوافق إيران على تجريدها من نشاطها النووي العسكري مقابل رفع العقوبات الاقتصادية والسياسية عنها والتي أنهكت الشعب الإيراني حتى النخاع! أم ستمارس إيران مرة أخرى برغماتية الغموض الإيجابي للالتفاف على الضغط الأميركي للوصول الى الانتخابات الأميركية النصفية للكونغرس، والتي قد يفوز فيها الديمقراطيون، وبالتالي تضعف سلطة ترمب! وكما هو معروف وحسب الولاية الأولى لترمب فإن ترمب المفتون بالإعلام والصفقات والانجازات لا يطيق صبرا للحصول على النتائج، حيث يعلم بأن نفوذه قد يضعف كلما اقتربت نهاية ولايته.

ويعتبر النظام الإيراني كما ذهبنا الدولة الأكثر برغماتية في عصرنا الحاضر، وهي مدرسة قائمة بذاتها في هذا الصدد، والتي عجز الغرب عن مجاراتها خلال عهد أوباما حيث اضطر الأخير إلى توقيع الاتفاقية النووية والتي استطاعت إيران من خلال تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية ومن دون تجريدها من برنامجها النووي تجريد كاملا كما يريد حاليا ترمب، او يصل بمستوى التخصيب الى 3.67%، والذي وصل بالفعل حاليا إلى60% حسب تصريحات إيرانية عديدة، وكما هو معروف أن ترمب اضطر وتحت ضغط الصهاينة إلى إلغاء الاتفاقية مع بداية ولايته الأولى.

إن ترمب جاد في إنجاز اتفاق مع إيران (صفقة)، حيث ارسل قبل أيام تحذيرا للنتن ياهو بعدم توجيه ضربه لإيران، وبالتالي تخريب مسار المفاوضات، والذي يراه ترمب حتى الآن إيجابيا. وفي ظل هذا التباين بعث النتن ياهو رئيس الموساد ووزير التخطيط الاستراتيجي لاميركا ليس من أجل ايقاف المفاوضات او تخريبها، لأن وقتها قد فات، ولكن لتضمين المخاوف الصهيونية في أي اتفاق قد يتم توقيعه.

لذا في تقديري إن النظام الإيراني وجد نفسه هذه المرة أمام هامش ضئيل للمناورة واستخدام سلاحه البرغماتي الفعال طويل النفس، فالرئيس ترمب برغماتيا بإمتياز، ولكنه قد لا يملك النفس البرغماتي الطويل الذي تحلى به أوباما، ما قد يضطره للقيام بضربة عسكرية تقضي على برنامج إيران النووي، وذلك بمشاركة ابنه المدلل الكيان الصهيوني. لذا أعتقد بأن النظام الإيراني سوف يعمل جاهدا للتلاعب بالوقت والتحرك إلى منتصف الملعب لملاقاة الأميركي، وسوف لن يقول قطعا إن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود خشية من ضربة اميركية تقضي نهائيا على برنامجه النووي الذي كلفه المليارات والكثير من التضحيات الاقتصادية والبشرية، ما قد يضطره لتقديم تنازلات ملموسة وقد تكون مؤلمة فيما يتعلق ببرنامجه النووي، حيث في تقديري سيوافق مكرها على التفيش غير المشروط من قبل الوكالة العالمية للطاقة الذرية، وتخفيض مستوى التخصيب الى مستوى متدني جدا يتفق عليه بين الطرفين، كما قد يعمل على تقنين مدى صواريخه الباليستية، والتي باتت تشكل تهديدا للاقليم والعالم من وجهة النظر الغربية والكيان والدول العربية المجاورة، وذلك مقابل رفع كامل وشامل للعقوبات السياسية والاقتصادية.

إن النظام الإيراني أمام خيارين احلاهما مر وهما: أما أن يرضخ لطلبات أميركا والكيان الصهيوني، وذلك بتفكيك برنامجه النووي العسكري، وبالتالي تجريده من قوة استراتيجية تكتيكية ما سيعمل على اضعاف دوره كقوة اقليمية او تخفيض نسبة التخصيب إلى 3.67%، وأما أن يتمسك ببرنامجه النووي الحالي، وبالتالي قد يعرض منشأتها النووية والبنية التحتية لصناعاته العسكرية للتدمير الشامل، ما يساهم في زيادة انكفاءه سياسيا وعسكريا، وربما قد يتسبب ذلك في تفكك جبهته الداخلية وانهيارها. ان الحل في تقديري يكمن في ذهاب إيران إلى منتصف الملعب واللعب بأمان كما يقال في لعبة السنوكر.

إن النظام الإيراني مطالب أكثر من أي وقت مضي بفتح حوار جاد وبناء مع دول الاقليم العربية وبشكل خاص دول الخليج العربي وبنوايا سياسية واضحة غير ملتبسة يفضي إلى علاقات سياسية واقتصادية رصينة تساهم وبفعالية فى نمو المنطقة وازدهارها، والتخلي عن سياسة الغموض الإيجابي، والتحلي بالشفافية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدوله، وتفعيل اتفاق بكين الموقع بين السعودية وإيران وإبداء النوايا الحسنة تجاه دول الا0قليم وارسال رسائل طمأنة لدوله بالمقابل أيضا على دول الخليج العربي زيادة التواصل مع إيران وتقديم الدعم للشعب الإيراني وذلك لتجاوز الحصار والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليه من قبل الغرب والشرق، وأخيرا وليس آخيرا ينبغي على إيران الإستثمار في زيارة وزير الدفاع السعودي الأخيرة لطهران وتصريحه الإيجابي وغير المسبوق تجاه النظام الإيراني، حيث وفي ظل هذه الأجواء الإيجابية يمكن لإيران الدخول في مشروع نووي مشترك مع دول الخليج العربي ومشاريع استرتيجية أخرى من أجل تنمية وتطوير المنطقة برمتها. فهل نعتبر زيارة الوزير السعودي ضوءا في آخر نفق العلاقات الخليجية الإيرانية المظلم؟

فمن يرفع الشراع؟

* باحث وأكاديمي بحريني

ملاحظة: حقوق المقال محفوظة للكاتب من يرغب في إعادة نشر المقال له الشكر ولكن من دون إضافة او تعديل.

أجواء برس

“أجواء” مجموعة من الإعلام العربي المحترف الملتزم بكلمة حرّة من دون مواربة، نجتمع على صدق التعبير والخبر الصحيح من مصدره، نعبّر عن رأينا ونحترم رأي الآخرين ضمن حدود أخلاقيات المهنة. “أجواء” الصحافة والإعلام، حقيقة الواقع في جريدة إلكترونية. نسعى لنكون مع الجميع في كل المواقف، من الحدث وما وراءه، على مدار الساعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى