
الطائف 33: تجديد العهد بين السعودية ولبنان بشهادة عربية ودولية
السعودية تؤكد على الميثاق اللبناني الذي عُمّد بالدم والتضحيات
كتب منير الحافي في السهم
جمعت سفارة المملكة العربية السعودية في بيروت كل الأطراف اللبنانية تحت سقف واحد مجدداً، في قصر الأونيسكو، في مناسبة مهمة وعزيزة على اللبنانيين. إنها الذكرى الثالثة والثلاثون لتوقيع اتفاق الطائف في المملكة في العام 1989، الذي عمد بالدم والتضحيات، وأنهى الحرب اللبنانية. وهو كان السبيل الوحيد المتاح للبنانيين للخروج من أتون حرب مدمرة قضت على البشر والحجر في آن معاً. ولقد نشط سفير خادم الحرمين الشريفين وليد بخاري وفريق عمله في دعوة ضيوف المملكة إلى الاحتفال الذي أريد له أن يكون رسالة قوية إلى كل من يعنيهم أمر لبنان، شكلاً ومضموناً.
في الشكل، ضاق المكان على اتساعه بالضيوف: من الصف الأول حتى آخر القاعة بالسياسيين ورجال الدين والاقتصاديين والإعلاميين والمثقفين والحقوقيين وغيرهم. وهؤلاء مختلفون ربما على مدى مطابقة اتفاق الطائف الذي أضحى «الدستور اللبناني» ببساطة، مع واقعنا السياسي اليوم، إلا أنهم مجمعون على أمرين: حتمية التعامل معه وتطبيق ما تبقى من بنود فيه، وتحسين الأداء في بنوده التنفيذية، وأهمية الرعاية السعودية لهذا الاتفاق التاريخي.
أما في المضمون فهناك عدة نقاط أرادت المملكة أن ترسلها إلى كل من اللبنانيين والعرب والعالم.
تقول المملكة «إننا لن نتخلى عن لبنان» . فلبنان عربي الهوية والهوى ومصالحه مع المملكة. والتاريخ القديم والواقع والمستقبل، كلها تؤكد على أن علاقته بالمملكة علاقة أخوّة وصداقة وقربٍ وقربى. لبنان ينظر إلى المملكة بأنها الشقيقة الكبرى التي تقف معه في المصاعب والملمات والدليل المهم على ذلك: اتفاق الطائف الذي ما كان ليتم لولا المملكة والمغرب والجزائر عبر اللجنة الثلاثية. والسعودية لطالما تعاملت مع الأخ الشقيق بالمثل. هي التي استضافت النواب اللبنانيين وأمنت لهم أجواء الحوار في الطائف السعودية لمدة شهر تقريباً. وعمل وزير الخارجية السعودي المرحوم الأمير سعود الفيصل ومعه الرئيس الشهيد رفيق الحريري بطلب مباشر من الملك الراحل المغفور له فهد بن عبدالعزيز ومتابعة مباشرة منه، على قضاء عشرات الساعات مع النواب اللبنانيين لتشجيعهم على ضرورة اتخاذ الموقف الشجاع والتضحية من أجل لبنان. إلى ذلك، إتخذت عشرات المواقف السياسية والدبلوماسية في المحافل الدولية والعربية خصوصاً في صراع لبنان مع إسرائيل التي اعتدت على الأراضي اللبنانية والشعب اللبناني عشرات المرات ومنها في العام 1978 و1982 و1993 و2006. وفي كل هذه الحروب مع إسرائيل كانت المملكة سنداً سياسياً واقتصادياً ومالياً مهماً للبنان. في المضمون اليوم، تريد المملكة التشديد على أن الطائف الذي هو «مُلك اللبنانيين» هو أيضاً نتيجة جهد السعودية والعرب والعالم، وهي تعترض بوضوح على المساس به! ترى المملكة أن اتفاق الطائف بحاجة إلى فرصة التنفيذ الصحيح وهذه رؤية معظم القوى السياسية التي حضرت في الذكرى 33 للطائف في الأونيسكو. هناك نقاط مهمة في اتفاق الطائف لم تنفذ بعد فليُعمل على تطبيقها. وعبر الممارسة الصحيحة يمكن النظر إلى النتيجة. فليؤخذ بالإيجابيات ويمكن تفادي السلبيات. أما التطبيق الانتقائي لبنود من الاتفاق ونبذ بنود أخرى فقد أدى ذلك إلى اعتراض من بعض القوى من مسيحية وإسلامية في السابق. اليوم لبنان أمام مرحلة جديدة يمكن الاستفادة منها لتثبيت «وثيقة الوفاق الوطني» التي أقرت في الطائف وأضحت الدستور.
أولى الفرص المهمة التي ينظر إليها لبنان هي انتخاب رئيس جمهورية كي يستقيم عمل الدولة. رأس الدولة هو المفتاح. السعودية تشدد اليوم على ضرورة انتخاب رئيس سيادي، يجمع اللبنانيين و«يرأسهم» في موضوع إصلاح بلدهم. فلا مكان بعد اليوم للفساد في لبنان ولا مجال بعد اليوم لكي يكون لبنان منطلقاً للأذى لإخوانه العرب. تريد السعودية أن ترى في لبنان «دولة واحدة» لا دولة زائد دويلة حزب الله. المملكة لم تكن يوماً ضد طائفة معينة في لبنان. هي مع السنة والشيعة والدروز والعلويين والمسيحيين بكافة طوائفهم. هي باختصار مع كل لبنان لكنها لا تقبل أن يقوم حزب بمحاربتها سواء في لبنان أو في اليمن. وهذا الأمر من مسؤولية الرئيس المقبل أن يتولاه.
مع الرئيس تريد المملكة حكومة إصلاحية تعمل على تنفيذ الإصلاحات التي يطالب الشعبُ اللبناني أولاً ثم العالم بتطبيقها سواء في الحوكمة أم في الاقتصاد والقطاع المصرفي وغيره. عند ذلك تعود العلاقات اللبنانية السعودية واللبنانية الخليجية إلى سابق عهدها من التعاون بل تتطور هذه العلاقة لتدخل في إطار العملية التنموية السعودية 2030 التي يقودها الأمير محمد بن سلمان، وهي التي أكد ولي العهد السعودي أنها ستشمل كل الدول العربية وبدأ بالفعل بالاستثمار السعودي في عدة بلدان ليس بينها لبنان.. حتى الآن.
في السياسة، من الطبيعي أن السعودية لا تريد لبنان أن يكون ملعباً متقدماً لإيران وفي الوقت نفسه تريده أن يعود لعروبته الخالصة. في موضوع رئاسة الجمهورية تريد المملكة من اللبنانيين أن يختاروا لا أن تختار عنهم. لكن المملكة تفضل الرئيس المؤمن بالطائف والقادر على إخراج لبنان من عزلته العربية والدولية. وكان لافتاً كلام السفير السعودي الواضح في منتدى الطائف 33 بأن فرنسا لن تقوم بأي دعوة لعقد أي اجتماع مواز لتعديل اتفاق الطائف على أراضيها وهذا يشمل بالطبع دعوة جس النبض إلى سويسرا.
في طائف – الأونيسكو أو أونيسكو – الطائف لا فرق، وضوح في الرؤية عند السعوديين وعند اللبنانيين الحاضرين. لبنان «راجع» نحو العلاقة المميزة مع السعودية والخليج وكل الدول التي تتعامل معه تعامل الدولة مع الدولة وتعينه على الخروج من هذه الأزمة غير المسبوقة سواء في السياسة أو الاقتصاد والمال والمعيشة. السعودية فوق ذلك، تعمل على أن يكون في لبنان دولة مستدامة لا تنهار بعد فترة من الزمن بفعل وجود دولة موازية تحمل السلاح إلى جانب سلاح الجيش والقوى الأمنية. ولا تنهار بوجود فساد ينخر المؤسسات على اختلاف أنواعها. وتعمل هي مع فرنسا وكل أصدقاء لبنان، من أجل تطوير الاقتصاد اللبناني. فالاقتصاد القديم البالي عفا عليه الزمن إلى غير رجعة. المملكة تريد للبنان كما تريد لنفسها: الرخاء والاستقرار والأمن والتنمية والإصلاح والرؤية المستقبلية للأجيال المقبلة كي لا يفرغ لبنان.. من اللبنانيين!