
75 عاماً من الاحتلال الاستيطاني التوسّعي: 3 مقاربات تتصارع لحل المسألة الفلسطينية
كتب د. ميلاد سبعلي في جدار صفحته على الفايسبوك نص بحثي معمق للتاريخ. نشر في 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
أعادت عملية طوفان الأقصى طرح المسألة الفلسطينية على الساحات السياسية والدبلوماسية والإعلامية والشعبية في العالم. وبدأنا نرى مظاهرات ومناظرات إعلامية، برغم التحيّز السياسي الغربي للاحتلال، ترفع مجدداً شعارات فلسطين حرة من النهر الى البحر، من قبل شباب ليسوا فلسطينيين ولا حتى سوريين أو عرباً أو محمديين.
وفي مشاركات إعلامية من انتاج مفكرين أحرار في الغرب والشرق، ونقاشات معمقة مع نخب فكرية في الغرب، أعيد استعراض ما حصل في القرن الماضي، منذ وعد بلفور وتقاسم المنطقة من قبل الاستعمار القديم البريطاني الفرنسي في اتفاقية سايكس-بيكو، وتعمّده تشميل صك الانتداب البريطاني على فلسطين والأردن والعراق، والفرنسي على لبنان والشام، اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور. أي أن أهداف الانتدابين أصبحت تنفيذ الاتفاقية والوعد. وقام البريطانيون بتعيين أول مندوب سامي لهم في فلسطين، صموئيل هربرت، وهو صهيوني متعصّب.
يومها، ورث الانتداب البريطاني فلسطين من العثمانيين. وكانت أكثر من 80% من ارض فلسطين مشاعات غير ممسوحة، تديرها الدولة. وللتذكير، فإن مسح الأراضي الرسمي في لبنان مثلا، حصل في الستينات أيام حكم فؤاد شهاب. فما كان من صموئيل هربرت، ومن تبعه لاحقاً، الا أن منح الكثير من هذه الأراضي الى الوكالة اليهودية، لكي تحولها الى مستعمرات وكيبوتزات لاستقبال مئات الآلاف من المهاجرين اليهود، الذين كانوا مضطهدين في معظم الدول الأوروبية. فاستفادت الحركة الصهيونية من ذلك، لتنظيم موجات متتالية من الهجرات، طالما أن الأراضي موجودة، ورفعت شعار “ارض بلا شعب لشعب بلا أرض”. واشترت الوكالة اليهودية عدداً قليلاً من الأراضي في فلسطين معظمها لعائلات اقطاعية لبنانية وشامية وفلسطينية، لكنها لا تتعدى 2% من مساحة فلسطين. واستطاع الانتداب البريطاني من زيادة نسبة اليهود في فلسطين، من 4% في 1918، الى حوالي 40% عند قيام كيان العدو في 1948، وزادت هذه النسبة نتيجة التهجير الممنهج والتطهير العرقي للعصابات اليهودية، التي نظمت قوتها العسكرية خلال الحربين العالمية الأولى والثانية، من خلال تأسيس الفيلق اليهودي الذي قاتل مع البريطانيين والحلفاء، واكتسب الخبرات والتسليح، تدعمه المنظمات اليهودية العالمية والصهيونية بالمال والإعلام والتغطية السياسية.
هذه الوقائع لا أحد يذكرها اليوم، سوى قلة من المثقفين في الغرب أو حتى في العالم العربي، من باب رفع العتب، أو بعض الأقليات اليهودية الأصولية التي هي دينياً ضد قيام دولة يهودية في فلسطين، وتأثير هذه الأقليات لا يذكر.
وكانت الدعاية الإسرائيلية تخادع العرب خلال فترة 1916 حتى 1948، من خلال طرح نظرية أنهم يريدون وطناً قومياً لليهود في فلسطين، وليس دولة. وأنهم سيجلبون معهم العلم والازدهار والأموال، ويعيشون بسلام مع أبناء عمومتهم العرب المحمديون، ويدافعون عن القضايا العربية في المحافل الدولية. وقد نال معظم المهاجرون خلال فترة الانتداب البريطاني، جوازات سفر فلسطينية، ولم يكن أحد يتكلم عن دولة يهودية. لكن الثورات التي قام بها الفلسطينيون في 1936 و1939 ولاحقا في الـ 1947، رفضاً للهجرة ومصادرة الأراضي، وأخمدها تدخل الدول العربية، أدت الى تدخل عصبة الأمم ومن بعدها الأمم المتحدة، وارسال لجان لتقترح حلولاً تحت تأثير الضغط البريطاني، ولاحقا الأميركي، تقسّم فلسطين بين الفلسطينيين (العرب) واليهود، بدءاً بلجنة اللورد بيل (Lord Peel) في 1936، وصولاً الى قرار تقسيم فلسطين (قرار مجلس الأمن رقم 181) الى دولتين يهودية وعربية في 1947. وهو قرار رفضته الدول العربية، ولاحقاً عندما أعلن بن غوريون قيام “دولة إسرائيل” إثر انتهاء الانتداب البريطاني، جاءت الجيوش العربية بقدّها وقديدها، لإنقاذ فلسطين، شكلياً، بعد أن كان الحكام قد وافقوا ضمنياً على بيعها. وتهجر الشعب الفلسطيني بعد مقاومة شرسة، بما توفر له من أسلحة، على أمل استعادة العرب لفلسطين. وهو ما لم يحصل.
وكان من شروط قبول “إسرائيل” كعضو في الأمم المتحدة، في أيار 1949، هو احترامها وتطبيقها لقرار التقسيم (القرار 181) وقرار حق العودة (القرار 194). لكنها لم تعترف بها أو تطبقها يوماً.
ورفعت الدول العربية والجامعة العربية شعارات تحرير فلسطين ورفض الاعتراف بالكيان الاحتلالي الاستيطاني. وبقيت على هذا الموقف حتى الستينات، ترفع اللاءات المتتالية، فيما اللاجئون الفلسطينيون يعيشون في ظروف مزرية. ومن بقي تحت الاحتلال كان يعاني من القهر والتسلط والقمع. وأنشئت منظمة الاونروا للاهتمام بشؤون اللاجئين الفلسطينيين الى أن يتم حل المسألة وتطبيق حق العودة، وما زالت قائمة الى اليوم دون تطبيق القرار 194.
استولى الأردن على الضفة الغربية، ومصر على قطاع غزة، والشعار هو تحرير فلسطين من النهر الى البحر. فيما احتل اليهود جزءاً كبيراً من الأراضي التي حددها قرار التقسيم 181 على أنها أراضي فلسطينية، بما فيها القدس الغربية، بحجة أن العرب رفضوا القرار 181.
بعد هزيمة 1967، صدر قرار مجلس الأمن 242 الذي دعا الى “إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط ويستوجب تطبيق كلا المبدأين التاليين:
أ – سحب القوات الاسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في النزاع الأخير.
ب- إنهاء جميع ادعاءات أو حالات الحرب واحترام واعتراف بسيادة وحدة أراضي كل دولة في المنطقة واستقلالها السياسي وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها وحرة من التهديد وأعمال القوة.
ويؤكد أيضآ الحاجة إلى:
أ- ضمان حرية الملاحة في الممرات المائية الدولية في المنطقة.
ب- تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين.
ج – ضمان المناعة الإقليمية والاستقلال السياسي لكل دولة في المنطقة عن طريق اجراءات بينها إقامة مناطق مجردة من السلاح
د- وقف إطلاق النار”
لم تطبق إسرائيل هذا القرار. لكن التنازلات العربية أدت مع الوقت الى توقيع مصر اتفاقية كامب دايفيد (1979) التي اعترفت فيها بإسرائيل واستعادت سيناء. ووقع الأردن اتفاقية وادي عربة (1994) ولم يستعد الضفة الغربية والقدس الشرقية، التي خسرها في 1967، بحجة أن الفلسطينيين كانوا قد وقعوا اتفاقية أوسلو (1993) لإنشاء السلطة الفلسطينية، وبحجة بدء مسار للتفاوض من أجل انشاء دولة فلسطينية. لكن ذلك لم يتحقق، وبقيت السلطة الفلسطينية حتى الآن إدارة منزوعة السيادة، تسيطر على جزء بسيط من أراضي الـ 1967، وخاضعة بالكامل لإسرائيل. فيما المسائل الأساسية مثل مصير القدس وحق العودة والمساحات التي بقيت تحت الاحتلال من أراضي 1967، ظلّت مؤجلة.
في 2002، أطلقت المبادرة العربية في بيروت، من قبل الجامعة العربية، والتي ارتكزت الى القرار 242، ومبدأ الأرض مقابل السلام، وعرضت السلام الكامل بين جميع الدول العربية وإسرائيل، مقابل إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على أراضي 1967. وهو ما لم يقم به العرب عندما كانت هذه الأراضي تحت السيطرة المصرية والاردنية من 1948 حتى 1967.
لكن إسرائيل رمت بهذه المبادرة عرض الحائط، واستمرت بحملات الاستيطان في الضفة، حيث بلغ عدد المستوطنين اليوم في الضفة أكثر من 900 ألف مستوطن. مما يجعل حتى حل الدولتين شبه مستحيل التحقق. وأبقت على احتلالها للقدس الشرقية، ورفضها لمبدأ حق العودة.
وبعد الانتفاضات المتكررة للشعب الفلسطيني، والمعارك التي خاضها فلسطينيو غزة، انسحب جيش العدو من غزة في العام 2005، وأبقاها تحت حصار خانق، لتصبح أكبر سجن مفتوح في العالم، يقطنه أكثر من مليوني شخص. واعتبرت أن استمرار الاحتلال والاستيطان في الضفة، والحصار على القطاع، والتمييز العنصري تجاه فلسطينيي أراضي 1948، ورفض مبدأ حق العودة، هو أمر واقع ثابت، على العرب والفلسطينيين والعالم تقبّله، والبناء على أساسه.
وهذا ما أدى الى تخفيض إضافي في السقوف العربية، الى ما دون حل الدولتين، والقبول بالتطبيع المجاني، كما حصل في الاتفاقات الابراهيمية، أو الدعوة الى “تحسين ظروف حياة الفلسطينيين” مقابل التطبيع كحد أقصى. وكان للصراع السني الشيعي في المنطقة، وتدمير وحصار العراق وسورية ولبنان، ونقل العداء الخليجي والسنّي العربي من إسرائيل الى إيران، دور كبير في ذلك.
على ضوء هذه النجاحات الغربية والصهيونية، وخفض السقوف العربية، قام اليمين الإسرائيلي مع نتنياهو وحلفائه، بإهمال أية طروحات لقيام دولة فلسطينية، أو ما كان يسميه العرب “حلّاً عادلاً وشاملاً”، وإعادة إحياء أحلام الترانسفير، ونقل فلسطينيي غزة الى مصر، مقابل مساعدتها اقتصادياً في ضائقتها الخانقة، وخاصة بعد الحروب المتعددة التي خاضتها المقاومة المحاصرة في حماس بوجه العدو. إضافة الى نقل ما تبقى من فلسطينيي الضفة الغربية الى الأردن، الضفة الشرقية، وإقامة دولة لهم هناك، أو تغيير النظام الأردني لجهة مشاركة أكثر فعالية للفلسطينيين في إدارة الدولة. والعمل مع الدول العربية المطبّعة على استقبال أكبر عدد من فلسطينيي أراضي 1948، وإعطائهم الحوافز والجنسيات في هذه الدول. وهكذا تصبح إسرائيل، فعلياً، دولة يهودية صرف، بعد أن حصل نتنياهو من اعتراف رسمي من الأمم المتحدة بيهودية الدولة، وهو سابقة لا مثيل لها في الأمم المتحدة.
كل هذا على حساب الشعب الفلسطيني حيثما بقي على كامل مساحة فلسطين التاريخية، مع استمرار الاحتلال والاستيطان والقمع والحصار والتمييز العنصري.
وبالتالي، كان كيان العدو واليمين الصهيوني يعمل على تطويع العرب وإغرائهم لتطبيق هذا الحل العنصري الإقتلاعي. وهذا جزء من صفقة القرن التي سوّق لها الأميركي أيام ترامب.
إذاً، هذا هو الواقع التي حدث فيه طوفان الأقصى:
لم يعد أحد من الدول العربية، يطالب بفلسطين التاريخية من النهر الى البحر. مع بقاء هذا المطلب حياً عند بعض قوى المقاومة الجذرية، وتدعمها به إيران، ولو من باب الشعار، كما يتهمها كثيرون.
حل الدولتين ومبدأ “الأرض مقابل السلام” لم يعد مطروحاً الا لرفع العتب في المواقف الكلامية العلنية، سواء في الجامعة العربية أو على مستوى معظم الحكومات العربية، مع استثناءات قليلة. وكان الصهاينة من أيام شارون الى أيام نتنياهو قد استبدلوه بمبدأ “الأمن مقابل السلام”، الذي عادوا وتنازلوا عنه، واستعادوا فكرة الدولة اليهودية الصرفة وتهجير ما تبقى من الفلسطينيين، خاصة في ظل الهرولة أو الرخاوة العربية وترك الفلسطينيين لمصيرهم، وفي ظل تهاوي مؤسسات السلطة الفلسطينية وفسادها وتعاونها الأمني مع إسرائيل لضمان التمويل والبقاء.
لم يعد أحد في العالم يكترث لما يحصل في فلسطين، وبالشعب الفلسطيني. كأن تدمير شعب بكامله، وحرمانه من أرضه وحقه في حياة كريمة ودولة مستقلة وسيادة كاملة، هو شيء عادي أمام منطق القوة والتسلط والاحتلال والاستيطان والحصار والتهجير.
كما ساعد التطور التكنولوجي للاقتصاد الإسرائيلي، وتصدير المنتجات والتطبيقات والحلول المتطورة، خاصة في المجالات العسكرية أو الذكاء الاصطناعي أو الأمن السيبراني، الى الكثير من دول العالم، في تحوّل كيان العدو الى لاعب أساسي في الاقتصاد العالمي المعاصر، وبدأ ينخرط في مشاريع جيوسياسية عالمية، مثل خط التجارة الذي أعلن مؤخراً في قمة العشرين، لربط الهند بأوروبا عن طريق الخليج وفلسطين المحتلة، أو من خلال تسويق نفسه كمزود رئيسي للغاز الطبيعي لأوروبا، بديل عن روسيا، خاصة بعد حرب أوكرانيا.
وإذا كان العرب يطبّعون مع العدو دون المطالبة بحل عادل (ولو بالسقف المنخفض للمبادرة العربية) للمسألة الفلسطينية، فهل نعتب بعد على الأوروبيين أو الهنود أو الدول الأخرى على عدم ربط إدخال إسرائيل في أية مشاريع جيوستراتيجية دون إيجاد حل للمسألة الفلسطينية، وبالتالي التغاضي عن مقررات مجلس الأمن والتجاوزات الفاضحة للقانون الدولي الإنساني من خلال الممارسات العنصرية، والاستيطانية والقمعية والانتقامية؟
أمام هذا الواقع، جاءت علمية طوفان الأقصى، كرد على كل هذه التجاوزات والجرائم والتغاضي والقهر المزمن والاحتلال والاستيطان. واستطاعت أن تعيد المسألة الفلسطينية الى دائرة الاهتمام الدولي على المستويات الدبلوماسية والسياسية والإعلامية والشعبية.
وبرغم الانحياز الأعمى من دول الغرب، وخاصة أوروبا، الى فكرة أن لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها، وتصوير المسألة كأن الدنيا كانت بألف خير، والمشكل بدأت به حماس من خلال قتلها لأكثر من 1500 شخص في يوم واحد، وأسرها لأكثر من 250 شخصاً. مع كل ما رافق ذلك من حملات إعلامية تزور الحقائق، من قطع رؤوس الأطفال الى قصف المستشفى المعمداني الى اغتصاب النساء وغيرها الكثير من الحملات الإعلامية المدفوعة لغسل دماغ الجمهور الغربي والعالمي بالسردية الإسرائيلية، مع التغاضي عن كل ما اقترفته من جرائم من 7 أكتوبر حتى اليوم، والمجازر المروعة بحق المدنيين في غزة، وتدمير القطاع، وقطع المياه والكهرباء والانترنت والمساعدات الإنسانية، ومحاولة تمرير قرار في مجلس الأمن يجيز لها القيام بكل ذلك، تحت حجة حقها في الدفاع عن نفسها، وبحجة أن حماس ارتكبت مجزرة بحق المدنيين، وبالتالي يحق للعدو القيام بالأمر نفسه، ولو بمقياس مضاعف.
ولكن هذه التضحيات الكبرى التي يقدمها الشعب الفلسطيني في غزة، وصموده الأسطوري، أعادت إيقاظ الضمير الإنساني العالمي عند مئات الآلاف الذين يتظاهرون دعماً لغزة، خاصة من الأجيال الجديدة التي لم تكن على اطلاع على ما جرى ويجري للشعب الفلسطيني. لذلك كانت ردود الفعل متعاطفة بشكل كبير، ليس فقط مع حرية فلسطينيي القطاع، بل مع حرية كامل فلسطين وقيام دولتها الحرة المستقلة.
أما على مستوى الدول، فإن ضرب هيبة الجيش والكيان اليهودي، وطرح المقاومة لحق استرجاع كامل فلسطين، وشعور الكثير من المستوطنين وقادة العدو، بتهديد وجودي، كل ذلك جعل الكثير من الدول العربية والعالمية، والكثير من النخب التي تدور في فلكها، أن تهرول الى إعادة طرح ضرورة إيجاد حل عادل وشامل للمسألة الفلسطينية، وطرح حل الدولتين، مع كل ما يعتريه من غموض، بسبب مسائل شائكة مثل القدس وحق العودة والاستيطان في الضفة، فأية أرض سيعيدونها مقابل السلام، حيث لم يبقَ ارض لمقايضتها بالسلام، كما قال وليد جنبلاط، الذي شارك في مقال اليوم في جريدة النهار، مع ثمانية من القادة العرب السابقين، من حلفاء أميركا، مثل الرؤساء أمين الجميل وميشال سليمان وفؤاد السنيورة، وشخصيات عربية مثل عمرو موسى والاخضر الابراهيمي، حيث طالبوا بوقف اطلاق النار في غزة، والعمل على حل الدولتين.
وجميع الدول العربية، والكثير من الدول الغربية، حتى التي ترفض وقف إطلاق النار الآن في غزة، بما في ذلك أميركا، وبابا الفاتيكان، بدأت جميعها تطالب بحل عادل يؤدي الى دولة فلسطينية كاملة الأوصاف، على ما تبقى من الضفة والقطاع.
لا شك أن لذلك أسباب متعددة، منها أن الجرائم النازية التي يرتكبها العدو لا يمكن تغطيتها بسهولة أمام الرأي العام عندهم. ومنها أن العدو، مع كل الدعم الغربي، أعجز من أن يقضي على المقاومة، التي تقوى من جولة الى أخرى. ومنها أن المقاومة الفلسطينية ليست وحدها، هذه المرة. فإلى جانب التعاطف الشعبي العربي والعالمي، لديها حلفاء جاهزون للدخول في المعركة وفي إشغال جيش العدو وتهديد المصالح الأميركية إذا حاولت اسرائيل واميركا تصفية المقاومة الفلسطينية.
ومنها أن حل الدولتين، مع محاولات جعله أميل الى المصالح الإسرائيلية، هو فرصة قد لا تتكرر، قبل أن يقوى التيار الذي يطالب بالحرية لفلسطين من النهر الى البحر، ويطيح بكل ما انجزه الكيان اليهودي على مدى 75 عاماً من الاحتلال والتسلط وتسويق نفسه أنه الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ومركز التطوير والعصرنة والازدهار والعلم والتجارة.
ما هو مطروح إذاً، لحل المسألة الفلسطينية اليوم، هو مقاربات ثلاث:
1- مقاربة الدولة اليهودية الصرف، من خلال الترانسفير وتهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية وأراضي 1948. وهذا يعمل ويسوّق له اليمين الصهيوني بكل إمكاناته.
2- حل الدولتين، الذي أستفاقت عليه الدول العربية والعالمية، بعد صفعة 7 أكتوبر، وبعد أن دفنته اسرائيل لعقود من الزمن.
3- حل تحرير فلسطين من النهر الى البحر، وليس له من دول أساسية عالمية أو عربية تعمل أو تسوّق له، فيما تدعمه بعض قوى المقاومة التي ما زالت تتبنى طرحاً جذرياً، يعتبره الكثيرون خشبياً وغير واقعياً وغير قابل للتطبيق، على أساس أن إزالة كيان الفصل العنصري والاحتلال والاستيطان، دونه معركة مفتوحة مع الغرب الذي يدعمه، ويستفيد من وظيفته في المنطقة للسيطرة على ثرواتها وانتفاضاتها.
ختاماً، نقول إن لمشروع اليمين الصهيوني الذي يدعو الى دولة يهودية صرف، من خلال الترانسفير، دعاته واعلامه الذي يستطيع خلق سرديات جميلة له، مثل تحسين ظروف حياة الفلسطينيين من خلال نقلهم الى دول أكثر تطوراً أو استقراراً.
كما أن لحل الدولتين، الذي دونه الكثير من العقبات، منظروه ودعاته، الذين ناموا وتغاضوا عن الاحتلال والاستيطان الظلم لعقود، واستفاقوا اليوم، يبشرون بالعمل له.
لكن أصحاب مقولة تحرير كامل فلسطين، ما زالوا خجولين بطرحهم، وبالطبع غير مرحب بهم في معظم الاعلام العربي والغربي، وحتى جمهورهم كان فاقداً للأمل بإمكانية إعادة طرح هذه المقولة مجدداً، بعد كل التطورات والاحباطات والهزائم. ولا شك أن لديهم أولويات أخرى عسكرية ولوجستية واجتماعية وسياسية، ولكن هذا لا يلغي ضرورة إعادة بلورة مشروعهم وطرحه كبديل لما يحصل، حتى لو من باب تحسين الشروط حالياً. وهذه الضرورة تتكامل مع ضرورة وقف المعركة الحالية، فيما المقاومة ما زالت محتفظة بقوتها، من أجل التأسيس لجولات أخرى قادمة.