بعد 50 عاماً على رحيلها تبقى أم كلثوم “سيرة الحب”

زياد سامي عيتاني

«ثومة»، «الست»، «كوكب الشرق»، «سيدة الغناء العربي»، «شمس الأصيل»، «صاحبة العصمة»، «قيثارة الشرق»، كلها ألقاب حازتها السيدة أم كلثوم من جمهورها الكبير من المحيط إلى الخليج، التي تحلّ الذكرى الـ٥٠ لرحيلها، بينما تلوح أم كلثوم التي تركت ظلها حتى بعد رحيلها بنصف قرن، يبدو أثرها واضحا في محبيها وعشاق صوتها وفنها الذي لم تطمسه السنوات والعقود المتعاقبة، لا يزالون يتمسّكون بأثرها ومقتنيات من حضورها وأعمالها الغنائية المتاحة على أسطوانات، منديل كانت تمسك به أثناء غنائها، فساتينها وأحذيتها وحقائبها ونظاراتها الطبية والشمسية، أو كما يقال «من ريحة الست».
رغم الألقاب الكثيرة التي حملتها أم كلثوم، لكن يبقى «الست» اللقب المفضّل والأكثر انتشارا والأقرب لعشاقها والمعبّر عن تاريخ سيدة الغناء العربي، وما حملته من هالة تشعّ نورا ومحبة وإبداعا وطربا، حيث تعتبر من وجهة نظر الملايين أهم من غنّت في تاريخ الغناء العربى، لما لها من «كاريزما» خاصة جداً، وأغاني لا تزال مرتبطة باسمها إلى الآن بسبب موهبتها الكبيرة واختياراتها الذكية على مرِّ سنوات، لتظل على القمة في معادلة صعبة ارتبطت بها بعدما وصفت بأنها «الهرم الرابع».

ولكن لقب «كوكب الشرق» أطلقه «كروان» الإذاعة محمد فتحي عليها، أما لقب «قيثارة السماء»، فقد أطلقه عليها طاهر الطناحي في كتابه «حديقة الأدباء»، أما «ثومة» هو اللقب الشعبي أطلقه الوسط الفني عليها.
فتحت لأم كلثوم مطارات العالم، وقصور العرب، وبيوت المغاربة، ومسارح باريس وأوروبا، وقلوب الخلق فوق تراب من خيال «ما هوى»، ولا كان ليهوى أبداً وبين الناس «كوكب دريّ»، إسمه أم كلثوم وكفى بها نعمة.
واجه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بسلاح «الست»، الإستعمار و العدوان على مصر، رغم أنه مُنعت أغانيها في الإذاعة الرسمية بعد ثورة 23 يوليو 1952، لكنها عادت بقرار من جمال عبد الناصر، حيث غنّت خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، نشيد «ولله زمان يا سلاحى» الذي أصبح نشيدا قوميا لمصر فيما بعد، كما كانت سفيرة مصر والعرب خلال هزيمة نكسة عام 1967، فنظمت جولات عربية، وخصصت إيرادات حفلاتها للمساهمة في المجهود الحربي، وقدمت حفلات غنائية يعود ريعها للخزانة المصرية والجيش، وكانت أولى حفلاتها خارج الوطن العربي على مسرح «أوليمبيا» بباريس عام 1967.

وُلدت فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي في 31 كانون الأول 1898 في قرية طماي الزهايرة بمركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية، والدها إمام ومؤذن مسجد القرية، وحفظت القرآن بالكُتّاب، وكذلك الكثير من القصائد وشاركت إحدى أخواتها الغناء، بدأت مشوارها الفني بالتواشيح الدينية بمرافقة والدها وارتدت زي الصبيان حيث لا يصحّ للفتيات بالغناء حينها.
عندما تعرّف والدها على الشيخين زكريا أحمد وأبو العلا محمد عام 1916، أُعجبا بصوتها وأقنعا والدها بالانتقال إلى القاهرة مع ابنته، لتبدأ الخطوة الأولى في مشوارها الفني.
كانت انطلاقتها الأولى حين أحيت ليلة الإسراء والمعراج بقصر عز الدين باشا، وقامت سيدة القصر بإهدائها خاتما ذهبيا وثلاثة جنيهات كأجر لها.
استقرّت نهائيا بالقاهرة عام 1921، وأقامت أولى حفلاتها العامة عام 1922 بحي الحسين، ثم غنّت في حفلات كبار القوم بدءا من عام 1923.
أول أسطوانات أم كلثوم
صدرت أول أسطوانة لها بقصيدة «وحقك أنت المنى والطلب»، ولاقت شهرة واسعة وباعت 18 أسطوانة لأغنيات أخرى بعد ذلك.
برزت شهرتها مع معرفتها بالشاعر أحمد رامي عام 1924م، فكتب لها ما يقرب 137 أغنية، ووقّعت أول عقد هام لها عام 1926م مع شركة تسجيلات أقراص «نيجراما فون»، التي خصصت لها راتبا سنويا، ونسبة لكل قرص يتم بيعه.
قدّمت الشعر العربي بحفلاتها بأداء غنائي مميّز، وأسّست أول نقابة للموسيقيين عام 1943 واحتفظت برئاستها لعشر سنوات.
تعاونت مع كبار الشعراء، منهم: أحمد شوقي، أحمد رامي، بيرم التونسي، مأمون الشناوي، عبد الفتاح مصطفى، أحمد شفيق كامل، وعبد لله الفيصل، نزار قباني، الهادي آدم وغيرهم.
وتعاونت مع أعاظم الملحنين منهم: زكريا أحمد، رياض السنباطي، بليغ حمدي، محمد الموجي، محمد عبد الوهاب، سيد مكاوي، كمال الطويل وغيرهم.
من أشهر أغانيها العاطفية: هسيبك للزمن، سيرة الحب، بعيد عنك، لسه فاكر، دارت الأيام، أغدا ألقاك، فكّروني، أنت عمري، أمل حياتي، فات الميعاد، حيّرت قلبي، هجرتك، الحب كده، الحب كله، هو صحيح الهوى غلّاب، أروح لمين، يا ظالمني، يا مسهرني، وغيرها الكثير والكثير…
أم كلثوم، التي فتحت لها مطارات العالم، وقصور العرب، وبيوت المغاربة ومسارح باريس وأوروبا، وقلوب الخلق فوق تراب من خيال «ما هوى»، ولا كان ليهوى أبداً ما كان في رحاب الوطن العربي «كوكب دريّ» إسمه أم كلثوم، وكفى بها «نعمة الدنيا»، كما وصفها هكذا وصف أديب «نوبل» نجيب محفوظ ببساطة وفي إيجاز مدهش.
فعلى مدى أربعين عاماً تقريباً ظلت حفلاتها الشهرية التي كانت تقام في ليلة الخميس تُذاع على الهواء مباشرة، حتى بلغ عدد جمهورها الإذاعي الملايين في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
لقد كانت رمزاً ثقافياً لأمّتها، وقد عُرفت بأسلوبها الغنائي الفريد وحسّها الشخصي في الأناقة، وكانت تعتبر نموذجاً معاصراً للفن العربي، وكانت أم كلثوم في أوجّ تألّقها خلال الأربعينيات من القرن الماضي، حيث قدّمت أغاني الحب العامية، كما غنّت شعرا أنيقا ومتطورا باللغة العربية الفصحى، محمّلًا بالصور التاريخية والدينية. 
كما تميّزت أم كلثوم بقدرات هائلة على تغيير طبيعة الأداء الغنائي حسب الحاجة، فتصرخ حزنا أو تهتف فرحا، أو تتأوه ألما أو تغضب. وقد تضطر إلى الابتعاد عن الميكروفون، ويصاحب ذلك مشاعر جسدية قوية ورصينة وصادقة، وهي تهزّ منديلها الممسك بأصابعها التي لا تكفّ عن الاحتكاك ببعضها البعض.
لقد كانت أحبال أم كلثوم الصوتية قادرة على الاهتزاز حتى 14 ألف مرة في الثانية، وهو ما تطلّب منها الوقوف مبتعدة قليلاً عن الميكروفون.
وأدّى صوتها القوي وقدرتها على التكرار المتنوّع لسطر واحد من النص إلى جذب الجماهير إلى مشاعر ومعاني الكلمات الشعرية.
لقد كانت تقف أمام جمهورها وتكرّر العبارات والمقاطع بناءً على طلبهم، وكانت قادرة على الارتجال حتى أن الناس كانوا يقولون إنها لم تغنِّ سطرا واحدا بالطريقة نفسها مرتين قط. وبفضل إتقانها البارع للعديد من الألوان والزخارف الصوتية، كانت تُطيل مقطوعاتها الموسيقية التي تستغرق عشرين دقيقة إلى عروض تستغرق ساعتين.
يوم الإثنين 3 شباط من عام 1975 توفيت أم كلثوم في القاهرة بسبب توقف القلب عن الخفقان عن عمر يناهز 76 عاماً، وشُيّعت جنازتها من مسجد عمر مكرم الواقع بوسط القاهرة.
وكانت شعبيتها كبيرة لدرجة أن خبر وفاتها أثار موجة من الحزن الهستيري، واصطف الملايين من المعجبين في الشوارع لحضور موكب جنازتها، وكانت من أكبر الجنازات في العالم، إذ قدّر ووصل عدد المشيّعين لنحو 4 ملايين شخص، ونشر خبر وفاتها في كبريات الصحف ووسائل الإعلام العالمية.
بعد 50 عاماً على رحيلها تبقى أم كلثوم «سيرة الحب».

أجواء برس

“أجواء” مجموعة من الإعلام العربي المحترف الملتزم بكلمة حرّة من دون مواربة، نجتمع على صدق التعبير والخبر الصحيح من مصدره، نعبّر عن رأينا ونحترم رأي الآخرين ضمن حدود أخلاقيات المهنة. “أجواء” الصحافة والإعلام، حقيقة الواقع في جريدة إلكترونية. نسعى لنكون مع الجميع في كل المواقف، من الحدث وما وراءه، على مدار الساعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى