سقوط الأنظمة .. ونهاية حزب البعث العربي الاشتراكي ..   

#عراديات – 333

بقلم محمد حسن العرادي – البحرين

السبت 4 يناير 2025

 

كانت تجربة حزب البعث واحدة من أطول التجارب الحزبية الحاكمة في الوطن العربي، فلقد تولى حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة أكثر من 60 عاماً في كل من العراق وسوريا، واذا كانت فكرة البعث قد إنطلقت من دمشق في 7 أبريل 1947 على يد منظر الحزب ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وأثمرت عن تأسيس حزب سياسي عربي عقائدي، سرعان ما إنتقل إلى العراق في بداية الخمسينات (1951) على يد فؤاد الركابي، ثم توالى تأسيس فروع الحزب في كل من اليمن والأردن ولبنان والبحرين، على يد المؤيدين للبعث وخاصة الطلبة الذين كانوا يدرسون في العراق وسوريا ثم يعودون إلى بلدانهم ناقلين فكرة حزب البعث، فإن هذه التجربة العربية الفريدة بما لها وعليها قد وصلت إلى محطتها الأخيرة بعد حوالي 77 عاماً من التأسيس.

 

وتجدر الإشارة إلى أن هناك تماثلاً كبيراً بين تجربة الحزب الشيوعي الذي أسس الاتحاد السوفيتي بقيادة فلاديمير ايلتش لينين، والتي عملت على نشر الفكر الشيوعي في مختلف دول العالم وخاصة في دول الكتلة الشرقية بأوروبا وعدد من البلدان العربية والآسيوية، لكن هذا الحزب إنتهى الى فشل ذريع في 29 أغسطس1991 في عهد الرئيس ميخائيل جورباتشوف الأمين العام للحزب الذي طرح نظرية (بيريسترويكا) في محاولة لإصلاح الحزب فقاده إلى الدمار والخراب والسقوط، بعد أن بقي الحزب في السلطة 74 عاماً، والغريب أن الحرب على العراق كانت السبب المباشر وراء دق المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفيتي الذي كان احدى القوتين العظميين في العالم، حين سلم جورباتشوف بالهزيمة وتنازل عن السلطة وعن ألمانيا الشرقية لصالح الغربية فسقط جدار برلين وتوحدت ألمانيا مرة أخرى، عندها بدأ انهيار عقد الجمهوريات السوفيتيه، وتفككت إلى دول مستقلة واحدة إثر الأخرى ،لاحقا إنضم أغلبها إلى حلف الناتو، الغريم الرئيسي لحلف وارسو الذي كان يقوده الاتحاد السوفيتي المنهار.

 

ومن المفارقات في هذا الجانب أيضآ ً، أن الحزب الشيوعي الذي حكم الاتحاد السوفيتي قد أنشئ في العام 1917 قبل نشأة حزب البعث بحوالي 30 سنة في العام 1947، لكن هذه التجربة العريقة سقطت في العام 1991، أي قبل سقوط تجربة حزب البعث في العام 2024 بحوالي 33 عاماً، وأن كثيراً من المؤمنين بالفكر الشيوعي قد تنازلوا عنها بمجرد خسارة الحكم، مقابل تخلي العديد من المنتمين لفكر حزب البعث عن عقيدتهم أيضاً بمجرد خروجه من الحكم، تماثل يطرح العديد من الأسئلة عن انتهاء عهد الأحزاب العقائدية والأيدلوجية.

إننا أمام حاجة ملحة للبدء في البحث عن قراءات جديدة للتجارب الحزبية في البلدان العربية تلك التي كان إرثها وتركتها ثقيلة ومرهقة على إمتداد عقود من الاستبداد وقمع الحريات والتصفيات الدموية، والبحث عن صيغ بديلة لأحزاب حداثية تؤمن بحق الاختلاف والحريات وحقوق الإنسان، وتضع البرامج والمشاريع التنموية والمصالح المشتركة لدولها كأساس لقيام الأحزاب وإدارتها بدل تلك الأحزاب العقائدية الشوفينية، ولنا أن نتساءل هل يمكن أن تقوم أحزاب سياسية عربية جديدة عابرة للأقطار والدول وفق برامج سياسية وإقتصادية، إنسانية وحدوية تكاملية، إنه التحدي القادم أمام النخب والمثقفين العرب.

 

وبالعودة إلى سقوط تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يرفع شعارات براقة تدغدغ عواطف ومشاعر المواطنين من قبيل (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)، دون أن يكون لذلك اي إنعكاس حقيقي على أرض الواقع، هذا الحزب الذي كانت رسالته الرئيسية وهدفه الأساسي قائمة على التأسيس للوحدة العربية وفق ثلاثة أعمدة (وحدة، حرية، إشتراكية) قد أخفق بشكل ذريع في تحقيق أي من هذه الأهداف، بل إنه فشل في الحفاظ على وحدة الاقطار التي حكمها في العراق وسوريا، خاصة وأنه دخل في تصفيات ومعارك دموية مع الأحزاب السياسية المتنافسة معه، رغم لجوئه إلى تشكيل جبهات وطنية وتقدمية سياسية واسعة كغطاء لتفرده بالحكم بعد فشله الذريع في إطلاق الحريات السياسية، أما عن موضوع الإشتراكية فقد كان حزب البعث أبعد ما يكون عن تطبيق هذه النظرية، حيث أنه تبنى نظرية الإقصاء لأي صوت أو حزب معارض، وترك جبهته الداخلية ضعيفة وهشة وغير قادرة عن الخروج من دكتاتورية القمع رغم فتح الأبواب أمامها.

 

كما أن من المهم توثيق مقدار الغرور والاستكبار الهائل الذي كانت تعيشه القيادات البعثية الحاكمة في كل من العراق وسوريا، وإذا كان هذا الغرور والطغيان قد أدى إلى سقوط بغداد بعد حصار وتجويع طال القطر العراقي طوال حكم الرئيس صدام حسين وإنتهى باعدامه، فإن ذات الغرور والغطرسة نفسها هي التي قادت الرئيس السوري بشار الأسد إلى الهروب المشين والسقوط بعد أن جر الكثير من الويلات على الشعب السوري العظيم، وفي كلتا الحالتين تبخر حزب البعث العربي الاشتراكي وتحول إلى مجرد ذكرى سيئة يهرب منها حتى من إنتمى إليها واستفاد منها، وغدت فلول البعث تبحث عن مأوى أمن في الدول الصديقة، وجعلها تحن إلى العودة لسدة الحكم كما فعلت بقايا الحزب في العراق أكثر من مرة لكنها فشلت، وكما هو متوقع أن تفعل عناصر البعث في سوريا وستفشل أيضًا لأن حجم المأساة أكبر من أن يعالج، خاصة بعد أن تحول أغلب قادة الحزب في القطرين إلى مجموعة من المستفيدين والفاسدين والمنافقين الملتفين حول الحاكم الطاغية.

 

من جهة أخرى لابد من تسجيل الفشل الأكبر على الصعيد العسكري، ليس من باب الهزائم التي تكبدتها الجيوش الموالية لحزب البعث في كل من العراق وسوريا، بل من باب سرعة تفككها وانهيارها رغم مما إمتلكه الجيشان من صلاحيات واسعة وإمكانيات هائلة وموازنات مخيفة، لكنها كانت مجردة من أهم ما يؤسس العقيدة القتالية وهو الولاء للأرض والوطن وليس للدكتاتور، الأمر الذي يطرح سؤالاً مهما عن مدى الحاجة لتأسيس الجيوش الكرتونية في أغلب البلدان العربية، خاصة بعد أن ثبت بالدليل القاطع بأن هذه الجيوش غير قادرة حتى على حماية أنظمتها، فلماذا لا يتم إعادة توجيه الأموال الهائلة التي تصرف على هذه الجيوش العربية بإتجاه التنمية المجتمعية والنهضة الصناعية والزراعية، بدل هذا الهدر غير المبرر.

 

إن فشل تجارب الأحزاب العربية القومية في العراق وسوريا وقبلها في مصر، يطرح سؤالاً مهماً حول أهمية إطلاق مجموعة من الورش والحوارات السياسية الجادة من أجل تقييم هذه التجارب، والوقوف على أسباب فشلها وإخفاقاتها، خاصة وأنها ارتبطت بمرحلة مهمة من فترات التحرر من الاستعمار الأجنبي الذي سالت دماء كثيرة من اجل الخلاص منه ليتم استبداله باستعمار محلي “وطني” خسرت الشعوب خسارة هائلة في سبيل الخلاص منه.

 

إنه ليس فقط سقوط أنظمة وأحزاب، لكنه سقوط رؤى ونظريات هيمنت وشوهت العقلية العربية، واليوم نحن في أشد الحاجة إلى الحوار حول صياغة أفكار ورؤى وهويات مشتركة وتيارات سياسية عربية واقعية تفتش عن المشتركات بين الشعوب العربية، وتعزز الترابط المجتمعي والاقتصادي والتنموي والسياسي، بعد أن ثبت بالملموس أن المجتمعات العربية بحاجة لأن تأكل وتشرب وتلبس وتعيش حرية الرأي والتفكير والإبداع، وليس أن تجري وراء الأوهام الفكرية البائسة المنتهية الصلاحية والتي لا تغني ولا تسمن من جوع في عصر الحريات وسيادة القانون الدولي وحقوق الإنسان، يجب ان ننقي الوعي العربي من تأثير أحزاب بالية نشرت الفقر والجوع والموت والخراب كما فعل حزب البعث في كل من العراق وسوريا، رغم ما يمتلكه هذين القطرين العزيزين من موارد مالية وثروات طبيعية إقتصادية وزراعية وصناعية هائلة، هذه مهمة كبيرة وجادة أمام النخب العربية لترميم الدمار الذي أوقعته هذه الأحزاب الشمولية في البينية الفكرية للإنسان العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى