
الوقوف على أعتاب كربلاء
بقلم محمد حسن العرادي – البحرين
يقف الشعراء على أطلال أحبتهم ينظمون الشعر ويخيطون من القصائد شريط ذكريات وأمنيات، علهم بذلك يخلدونهم ويحمونهم من عالم النسيان، لكن جواد (خيل) الإمام الحسين عليه السلام، وقف في الثاني من محرم عام 61 هجرية على ثرى أرض كربلاء بمجرد أن استنشق عبيرها الفواح، رافضاً أن يتزحزح ولو بضع خطوات، وكأنه تعرّف على تلك التربة الطاهرة المهيئة لاحتضان دم الإمام الحسين وأهل بيته، فأبى أن يرحل أو يتحرك قيد أنملة، تناغمٌ تامٌ بينه وبين خيرة أهل الأرض الذي يحمله في ذلك الزمان، تفاهم وإنسجام على أعلى المستويات، همهم الجواد بصهيل خاص ينبئ الحسين بأن هذه نهاية الرحلة وبداية الثورة.
ولأن الإمام الحسين عليه السلام، إمام معصوم مفترض الطاعة مسددٌ من الله، وامتداد لرسول الله الذي قال فيه (حسين مني وأنا من حسين) وقال أيضاً (حسين سبط من الاسباط) فكان عليه أن يُلقي الحجة على أهل ذلك الزمان وكل زمان، كل من أحاط به من الأعداء والمغرر بهم، وحتى من التف به من الأحبة والأصفياء، سألهم ما إسم هذه الأرض وهو العارف بها أكثر من غيره، لأنه الموعود بثراها الطاهر حضناً دافئاً وقبراً حانياً يلملم جسده المرضوض بحوافر خيول الأعوجية،المقطّع بضربات السيوف، المطعون بأسنة الرماح، المشجوج برؤوس السهام المسننة، ذلك الجسد الدامي المشخب بالجراح الذي خلد إسم هذه البلد التي اختارها الله له مدفناً ومشهداً وشاهداً على الوفاء بالعهد مع الله، فقال لهم ما إسم هذه الأرض، قيل هذي نينوى، وتسمى الغاضريات، وتعرف بالعقر، قال أعوذ بالله من العقر، قالوا تسمى كربلاء، قال كربٍ وبلاء، خيموا إن بهذي الأرض مقتلنا وصعودنا الى السماء.
الإمام الحسين صادق الوعد، رمق السماء بنظرة وفاء وإخلاص، خاطبها قائلاً ها قد وصلنا إلى أرض الميعاد والمعاد، ثم إلتفت إلي أهل بيته وأصحابه مجيباً على كافة الأسئلة التي تراودهم، هاهنا تسفك دماؤنا، ها هنا تُفصل رؤوسنا عن أجسادنا، ها هنا تُحرّق خيامنا وبيوتنا، ها هنا تُسبى نساؤنا ويُيتم أطفالنا، ها هنا نلقي الله بقلوب صابرة وأرواح مثابرة في حبه ورضاه، ها هنا يُعرف الحق وينكشف الباطل ها هنا ينتصر السيف على الدم، ويكتب التاريخ بداية جديدة للمعركة الفاصلة بين الخير وبين الشر.
عندما أيقن الإمام الحسين عليه السلام أن الحرب واقعة لا محالة، جلس إلى أصحابه ناصحاً لهم فقال ( أمّا بعد فإنّي لا أعلمُ أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيتٍ أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكُم الله عنّي جميعاً خيراً ، ألا وإنّي أظنُ يَومنا من هؤلاءِ الأعداء غداً إلّا وإنّي قد أذنتُ لكم ، فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم حَرجٌ منّي ولا ذمام) ثم قال .
(هذا الّليلُ قد غشيكم فاتّخذوه جَمَلا، وليأخُذ كلُ رجلٍ منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سَوادِكم ومدائنكم حتّى يُفرجَ الله ، فإنَّ القومَ إنما يطلبونني ولو قد أصابوني لَهوا عن طلب غيري) إنها حصافة ما بعدها حصافة وتضحية ونكران ذات لم يسبق له مثيل، وإصرار على المضي إلى أبعد شوط في الدفاع عن الدين وافتداءه، فكم منا وصَلَته رسالة الإمام الحسين الشهيد عليه السلام.