
صندوق العراق للتنمية.. بوابة الأمل لمستقبل أكثر ازدهارًا
حين نتحدث عن العراق، فإننا لا نتحدث عن بلد عادي، بل عن وطن يمتلك من التاريخ والثروات ما يجعله قادرًا على النهوض في كل مرة يمر بها بظروف صعبة. العراق ليس مجرد حقول نفط أو موازنات حكومية متأرجحة، بل هو أرض الفرص، وطن الطموحين والحالمين بمستقبل أفضل. لكن لكي يتحول هذا الحلم إلى واقع، لا بد من أدوات حقيقية تدفع عجلة التنمية إلى الأمام، وهنا يأتي صندوق العراق للتنمية ليكون النواة التي طال انتظارها، النواة التي يمكن أن تعيد بناء الاقتصاد على أسس حديثة بعيدًا عن التقلبات والأزمات.
لأعوام طويلة، ظل الاقتصاد العراقي حبيس التقلبات السياسية والأزمات المالية، معتمدًا بشكل شبه كلي على النفط، دون وجود بدائل اقتصادية حقيقية قادرة على تأمين مستقبل مستدام. هذا الاعتماد المفرط جعل العراق هشًّا أمام أي أزمة عالمية أو تغير في أسعار الطاقة، وهو ما انعكس بشكل مباشر على حياة المواطنين، حيث أصبحت المشاريع التنموية بطيئة أو شبه متوقفة، وأصبح تحقيق الأحلام البسيطة كامتلاك منزل أو الحصول على تعليم جيد أمرًا معقدًا بالنسبة لكثيرين. ولكن اليوم، مع إنشاء صندوق العراق للتنمية، بدأنا نرى تحولًا في طريقة التفكير، بدأنا نرى إرادة حقيقية لتغيير المعادلة، للانتقال من سياسة إدارة الأزمات إلى سياسة بناء المستقبل.
مشاريع على أرض الواقع.. من الحلم إلى التنفيذ
عندما تم الإعلان عن الصندوق، كان هناك من تعامل معه بحذر، متسائلًا عمّا إذا كان سينضم إلى قائمة المبادرات التي تبدأ بوعود كبيرة ثم تتلاشى في زحام البيروقراطية، لكن اليوم، ومع انطلاق مشاريع فعلية على أرض الواقع، أصبح واضحًا أن هناك رؤية واضحة وخطة جادة لتحقيق التنمية.
إيدوبا للمدارس.. استثمار في العقول قبل البنى التحتية
لا يمكن لأي بلد أن يحقق تنمية حقيقية دون أن يضع التعليم في صدارة أولوياته، وهذا ما أدركه القائمون على الصندوق، فكان مشروع إيدوبا للمدارس واحدًا من أول المشاريع التي أبصرت النور. وما يضفي على هذا المشروع قيمة رمزية عميقة هو أن اسمه مستوحى من أول مدرسة في التاريخ، التي تعود إلى حضارة وادي الرافدين في عصر السومريين، حيث وُلد مفهوم التعليم المنظم قبل آلاف السنين. هذا الارتباط بالجذور يعكس رؤية تتطلع للمستقبل دون أن تنسى الإرث الحضاري للعراق.
لكن “إيدوبا” ليس مجرد مشروع يحمل اسمًا تاريخيًا، بل هو نموذج تعليمي متكامل قائم على أحدث أساليب التعليم العالمية، حيث يتم دمج التكنولوجيا في العملية التعليمية، وتقديم مناهج حديثة قادرة على إعداد جيل جديد من الشباب العراقي المجهز بالمعرفة والمهارات المطلوبة لسوق العمل الحديث.
التعليم في العراق عانى لعقود من التحديات، من ضعف البنية التحتية إلى المناهج القديمة التي لا تواكب التطورات العالمية، وصولًا إلى الفجوة الكبيرة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل. مشروع إيدوبا يأتي ليكون خطوة نحو سد هذه الفجوة، عبر تقديم نموذج تعليمي حديث يمكن أن يشكل نقلة نوعية في مستقبل الأجيال القادمة.
“أجر وتملك”.. حل جذري لمشكلة الإسكان
أما على صعيد أزمة السكن، التي تعد من أكبر التحديات التي تواجه المواطن العراقي، فقد جاء مشروع “أجر وتملك” ليقدم حلًا مبتكرًا يجمع بين الاستقرار والمرونة المالية. كثير من العراقيين يحلمون بامتلاك منزل، لكن ارتفاع الأسعار، وصعوبة الحصول على قروض ميسرة، وغياب الحلول التمويلية جعل هذا الحلم بعيد المنال. المشروع الجديد يهدف إلى معالجة هذه الإشكالية عبر نموذج ذكي يتيح للأفراد استئجار العقار لفترة محددة، مع إمكانية تحويل هذا الإيجار إلى ملكية تدريجية، ما يعني أن المستأجر لن يكون فقط يدفع مقابل السكن، بل سيكون في طريقه إلى امتلاك منزله الخاص دون أن يشعر بعبء مالي ثقيل.
نحو اقتصاد أكثر تنوعًا.. ما بعد النفط
لكن الصندوق لا يتوقف عند التعليم والإسكان، بل يمتد ليكون رافدًا أساسيًا في إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي ليصبح أكثر تنوعًا واستدامة. العراق يمتلك إمكانات هائلة في قطاعات عدة لم يتم استغلالها بالشكل الصحيح، مثل الزراعة والصناعة والتكنولوجيا، وجاء الصندوق ليكون المحرك الأساسي في تفعيل هذه القطاعات وفتح أبواب جديدة للنمو الاقتصادي.
الشفافية والاستقلالية.. مفاتيح النجاح
ورغم كل هذه المشاريع الطموحة، يبقى نجاح الصندوق مرهونًا بمدى استقلاليته وشفافيته. التجارب السابقة في العراق أظهرت أن غياب التخطيط والرقابة يمكن أن يؤدي إلى فشل أكبر المشاريع، ولهذا فإن ضمان إدارة الصندوق بعيدًا عن التدخلات السياسية، ووضع آليات رقابة صارمة، هو ما سيحدد ما إذا كان الصندوق قادرًا على تحقيق الأهداف التي وُجد من أجلها.
لكن الشفافية والاستقلالية ليستا مجرد شعارات، بل هما جزء لا يتجزأ من منهجية عمل الصندوق، وهو ما يتجلى في الدور المحوري الذي يلعبه الفريق العامل داخل الصندوق، وهو مجموعة من الكفاءات العراقية الشابة والمتمرسة، التي تعمل بدافع وطني بحت، بعيدًا عن المصالح الشخصية أو الاعتبارات السياسية. هذا الفريق هو القوة الحقيقية وراء نجاح المشاريع، فهو الذي يضع الخطط، ويدرس التحديات، ويوجه الموارد نحو الأولويات الفعلية. إن وجود إدارة تعتمد على الحرفية والنزاهة والالتزام بالنتائج هو ما يجعل الصندوق مختلفًا عن غيره من المبادرات السابقة، ويمنحه القدرة على الاستمرار وتحقيق تحول اقتصادي ملموس.
الأمل يتحول إلى واقع
ما يميز هذه الخطوة ليس فقط المشاريع التي يتم إطلاقها، بل العقلية التي تقف وراءها. للمرة الأولى، هناك توجه حقيقي نحو التنمية المستدامة، نحو خلق حلول طويلة الأمد بدلًا من مجرد مسكنات مؤقتة. العراق يستحق أكثر من مجرد وعود، يستحق خطة واضحة، ورؤية تمتد لعشرات السنين، وهذا ما يسعى إليه صندوق العراق للتنمية.
اليوم، ومع انطلاق المشاريع واحدة تلو الأخرى، بات العراقيون يشعرون أن التغيير ممكن، وأن هناك من يعمل بجد لبناء مستقبل مختلف، مستقبل أكثر عدلًا، أكثر ازدهارًا، وأكثر استقرارًا. صحيح أن الطريق طويل، والتحديات كثيرة، لكن الأهم أن الخطوة الأولى قد اتخذت، وأن العراق، بعزم أبنائه وإصرارهم، يسير نحو غدٍ أفضل.
نوار السعدي
دكتور في الاقتصاد الدولي
02.12.2025