اللهم تقبل منا هذا القربان

بقلم محمد حسن العرادي- البحرين

عندما خَرَّ صريعاً مضرجاً بالدماء على ثرى كربلاء الطاهرجسد الإمام الحسين الشهيد المقدس عليه السلام، إهتزت أركان الوجود وارتبكت حركة الأجرام السماوية، وإحتارت أدمغة الكائنات الحية، وذُهلت عقول المجرمين والإرهابيين المشاركين في جريمة الإنقلاب الأموية على نظام الخلافة الاسلامية والشرعية السياسية والأخلاقية التي تُمثلها رمزية الإمام الحسين عليه السلام كونه الخليفة الشرعي بموجب اتفاقية الصُلح بين الإمام الحسن ومعاوية بن أبى سفيان، ونظراً لرمزية الإمام الحسين الدينية كآخر أصحاب الكساء الذين باهى بهم رسول الله (ص) نصارى نجران وفيهم نزلت الأية ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ۝٦١﴾ سورة آل عمران، في تلك اللحظات الحاسمة تسمرت العيون جميعها على مخيم الإمام الحسين الذي تلتهمه ألسنة نار الحقد على محمد وآل محمد.

كانت تلك الجموع تنتظر صرخة استسلام، يخرج فيها من نجى من الإبادة من أهل بيت النبوة رافعين الراية البيضاء الذليلة مستسلمين لحكم يزيد بن معاوية يطلبون الصفح والعفو عنهم، وبينما آلاف الفرسان والخيالة في الجيش اليزيدي ينتظرون الأوامر بالهجوم الأخير، خرجت من بين ألسنة اللهب إمرأة جليلة محتشمة تمشي لا تخرم مشيتها مشية رسول الله، وتقدمت نحو ميدان المعركة واثقة الخطى ترفع رجلاً وتضع أخرى بثبات راسخ كالجبال الراسيات لا يتزلزل أبدا، فتحلقت حولها العيون تتابعها في ذهول تام، بعضهم إعتقد بأنها ذاهبة لقائد الجيش اليزيدي عُمر بن سعد تستعطفة وتترجاه الصفح والغفران عمن نجى من آل البيت من الحرم والأطفال.

لكنها تجاهلت ذلك القائد العسكري المتبجح المتغطرس الذي كان يعتقد بأن لحظة إعلان النصر النهائي في حربه القذرة باتت وشيكة وبين يديه، وأن التاريخ سيسجل له لحظة النصر التاريخية التي ينتظرها بإعلان الإستسلام والإذعان التام، الأمر الذي يضمن له الجائزة الموعودة بولاية منطقة الري (أرض ايران)، لكن عقيلة الطالبيين وبطلة كربلاء زينب الكبرى سارت بمنتهى الهدوء والوقار والسكينة ناحية قلب المعركة، وعيونها تتفحص الأجساد المجندلة على الجانبين، تتخطى أثار الدماء الغزيرة التي نزفها المقاتلون من أجل الحق والحرية والعدالة الإنسانية تحت راية رسول الله، وحين وصلت الى الجسد المهشمة ضلوعه بحوافر الخيول الأعوجية، جلست بكل محبة وإحترام أمام من تحب، مسحت على جسده المسجى برفق وحنان، ثم وضعت كلتا يديها تحت ما تبقى من عظامه الطاهرة المرضوضة والمكسرة، وهمت برفع جسد المولى الطاهر، ثم ألقت بنظرها نحو السماء وهي تدعو الله قائلة ” أللهم تقبل منا هذا القربان اليسير”.

كانت العيون متحفزة لرؤيتها منهارة وذليلة، والآذان متلهفة لسماع صوتها وهي تذرف دموع الهزيمة والهوان، لكنها لم تحقق لهم شيئاً من تلك الأمنيات البائسة المريضة، بل أذهلتهم بصبرها وصمودها وقوة إيمانهم ورباطة جأشها، وبعد أن هوت على الجسد المقدس تشمه وتطبع على بقايا صدره قبلة الوداع، همست إليه متعهدة بإستمرار المسيرة الحسينية وإبقاء الراية عالية خفاقة حتى يندحر الباطل، ثم نهضت تنفض عن نفسها وأهل بيت جدها رسول الله غبار الحزن والأسى، ثم رمقت جيوش العدوان بنظرة إستهزاء لاتليق إلا بهم وبأمثالهم على مدى الزمان والتاريخ، وهبت واقفة بشموخ المنتصرين،ثم إستدارت راجعة ناحية الخيام المحترقة، لم تترجى أحد ولم تلتمس العفو من أحد ولم تعاتب أحد، بل عادت لتُعلن بداية المرحلة الثانية من الثورة الحسينية على طريق الدفاع عن مبادئ الإسلام العظيم ورسوله الكريم (ص) .

تلك كانت نقطة التحول الرئيسية في مسيرة الثورة الحسينية التي لم تكن قيادة جيش يزيد بن معاوية تتوقعها أو تتخيلها ابداً، لم يعد للنصر العسكري الذي حققه جيش جرار مكون من الطامحين والمنافقين والمغرر بهم، لم يعد له أي معنى، فلقد أعلنت زينب الكبرى بطلة كربلاء هزيمتهم النهائية بالضربة القاضية، رافعة منسوب التحدي والكبرياء إلى حد غير مسبوق بل ومفاجئ، وعلى تلك الطريق سار آلاف المقاتلين من أجل الحرية في مختلف ميادين القتال بين جبهة الحق وجبهة الباطل، وها هي غزة هاشم تعيد رسم المشهد الكربلائي من جديد لتؤكد بأن الحق لا يموت بموت أصحابه، بل أن دمائهم تنغرس في الأرض فتنبت أشجاراً وارفة الضلال يحتمي بها المدافعون عن الحق حتى ينتصر مهما طال الزمان.

أجواء برس

“أجواء” مجموعة من الإعلام العربي المحترف الملتزم بكلمة حرّة من دون مواربة، نجتمع على صدق التعبير والخبر الصحيح من مصدره، نعبّر عن رأينا ونحترم رأي الآخرين ضمن حدود أخلاقيات المهنة. “أجواء” الصحافة والإعلام، حقيقة الواقع في جريدة إلكترونية. نسعى لنكون مع الجميع في كل المواقف، من الحدث وما وراءه، على مدار الساعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى