انتحالات التوراة من تراث المشرق العربي القديم
كتب د. بشار خليف بحث تاريخي عميق حمل عنوان “انتحالات التوراة من تراث المشرق العربي القديم” وهو جزء من كتابه الذي يحمل عنوان “العبرانيون في تاريخ المشرق القديم”، جاء فيه:
ذكرنا سابقاً أن التواجد العبراني في بلاد كنعان كان طارئاً وقد حددته الدراسات والبحوث بين فترة/ 1040-932 /ق.م بحيث كانت هذه المجموعات على درجة أولية من الثقافة بحيث استوطنت منطقة الهضاب المركزية الفارغة من السكان، وأشادت بلداتها البسيطة المتناسبة مع ثقافتها الرعوية وشبه الثقافة الزراعية في مراحلها البسيطة.
وذكرنا أن هذا التواجد الهزيل / حضارياً / أكدته الدراسات الأثرية التي شككت في إمكانية وجود فاعل في فترة طروء العبرانيين إلى بلاد كنعان الجنوبية.
فإن كان تعداد هؤلاء حين طرأوا على بلاد كنعان لا يتعدى عشرة آلاف نسمة فإن الباحث ” ماك إيندي جونز ” توصل لدى قيامه بأبحاثه إلى أن عدد سكان مصر في هذه الفترة كان يتعدى ثلاثة ملايين نسمة أما في فلسطين وشرقي الأردن فوصل إلى نصف مليون نسمة وفي الرافدين ما ينوف على المليوني نسمة أما في الشام والساحل السوري فيزيد على المليون نسمة. (1)
إن هذا الإحصاء يطرح هزالة العديد العبراني مقابل عدد السكان في المشرق العربي ومصر، وعلى هذا نفهم مقولة ” جان بوتيرو ” من أن:
” الإسرائيليون ذلك الشعب المجهري، بالمقارنة مع عملاق الرافدين، الذين لم يكن لهم وجود يذكر على المسرح السياسي.. وعلى المستوى الثقافي كان الإسرائيليون مدينون بالكثير الكثير لسابقيهم وجيرانهم حيث أنهم لم يخترعوا شيئاً، كما ولم يقدموا للعالم شيئاً ” (2)
والحقيقة التي تفرض نفسها هنا، حين مناقشة أن العبرانيين لم يقدموا شيئاً للحضارة الإنسانية، فإن مطلق منجز حضاري كي ينبثق، ينبغي أن تتوفر عدة شروط له:
أولها: العمق الحضاري في التفاعل مع المكان، بمعنى آخر وجود بيئة اجتماعية متفاعلة مع البيئة الطبيعية والوسط المحيط.
ثانيها: العمق الحضاري في التفاعل مع الزمن، بمعنى وجود بُعد زماني يخّصب الخبرة التفاعلية الاجتماعية من جهة والتفاعلية الاجتماعية مع البيئة والمحيط من جهة أخرى.
وكلا هذين العاملين افتقدهما العبرانيون عبر الزمن.
ثالثها: الأخذ بمفاهيم الانفتاح والتمازج والتفاعل مع الآخر، حيث أن الثقافة العبرانية المستندة على الكهنوت المنغلق للتوارة والتلمود سعت إلى تعميم ثقافة الفيتو التي حتمت وجود قطيعة بين المجموع العبراني والمحيط وعلى مدى التاريخ.
ولا بأس أن نلاحظ في مساق التاريخ أن كل فرد يهودي استطاع أن يفعل ويقدم شيئاً للإنسانية لم يكن انعكاساً لمجتمعه بقدر ما كان الأمر انعكاساً للانفتاح على المجتمعات الأخرى وهذا ما يمكن إثباته في اسبنيوزا وآينشتاين وكارل ماركس وغيرهم.
بحيث أنهم تجاوزوا ثقافة الغيتو التوراتية إلى العالم الأرحب والأوسع حيث التفاعل والتمازج مع الآخر.
بناء على كل هذا خلا الحضور العبراني على الأرض وفي التاريخ البشري من أي منجز إنساني أو اختراع، سوى اختراع انتحالات من تراثات الشعوب الأخرى وإلصاقها بهم وهذا ما حصل لدى كتابة التوراة في الألف الأول قبل الميلاد في بابل إبان السبي البابلي.
ولعل جملة الخبرات والمعاينات التي قام بها الأحبار العبرانيون أثناء تواجدهم في بلاد كنعان ولفترة حوالي مئة سنة، بحيث نهلوا وخبروا ثقافة بلاد كنعان الموغلة في القدم، سواء لجهة العمائر والمدن والتشريع والحياة الحقوقية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية إلى ما هنالك، ثم ونتيجة للخبرات التي امتصوها خلال تواجدهم في بابل إبان السبي ولمدة 50 عاماً. جعلتهم يهضمون كامل المنجز الكنعاني وكذلك الرافدي، ثم سوف يعيدون صياغة كل هذه الخبرات بما يناسب تصوراتهم وأهدافهم السلبية على الصعيد الإنساني لهذا جاء التوراة في أسفاره الخمسة الأولى يحمل من الاختلاقات والانتحالات والأكاذيب ما يفوق الوصف.
يقول الباحث الفرنسي ” جان لوي برنار”:
” إننا نتحسس كل التحسس أن الأحبار اليهود قد اقتبسوا من تواريخ الأقطار التي جاسوا خلالها، بعض الحكايات فعبرنوا كل المعلومات. ولكن لماذا هذه اللصوصية؛ إن الغرض منها تلفيق أكذب تاريخ للعالم يثير أعظم ضجة فيه وكل ذلك اختراع ملفقة الشعب اليهودي المختار ” (3)
أما المؤرخ ويلز فيقول في كتابه معالم الإنسانية:
” إن اليهود ذهبوا إلى بابل همجاً وعادوا متمدنين. ذهبوا وليس لهم أدب معروف، وعادوا ومعهم الشطر الأكبر من مادة التوراة بعد أن عاشوا في ذلك الجو الباعث على النشاط الذهني في العالم البابلي ” (4)
ويقارب جان بوتيرو في كتابه بابل والتوراة ما كنا أشرنا إليه حيث يقول:
” يعطينا علم الآشوريات / الكتابات المسمارية / عن التوراة ليس إدراكاً مباشراً، بل إدراكاً قياسياً وغير مباشر. يقدم لنا معطيات في حالة أخرى وصياغة أخرى وإعداد آخر، اجترّها تاريخ إسرائيل ومؤلفو التوراة على نحو عميق وتمثلوها بعد أن علموا بأمرها وربما حملوها وقضوا بأنها مفيدة بمجرد تآلفها مع رؤيتهم وحساسيتهم الخاصة ” (5)
الجدير ذكره هنا هو أن هذا العالم ولأنه انحاز إلى ضفة العلم والحقائق الموضوعية فقد تم إقصائه من الكنسية الدومينيكية وما تبع ذلك من انتقاله إلى مراكز علمية أخرى. وهذا يذكر بما حصل مع إسبنيوزا اليهودي ومع توماس طومسون حين نشر كتابه التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي حيث تم طرده من جامعات الولايات المتحدة الأمريكية.
وهنا يحضرنا أن نذكر في موقف لافت أن الباحث الفرنسي جان بوتيرو والذي بدأ دراسته بدراسة التوراة كدافع من الكنيسة ثم وحين صار عالماً في الكتابات المسمارية المشرقية أدلى بموقف مهم يعطي دلالة على الخاصية الإنسانية والحضارية لمجتمع المشرق العربي في مواجهة ثقافة الانعزال والتقوقع والعدوانية العبرانية.
يقول بوتيرو:
” هناك نقطة ما زلت أتمسك بها.. أن علم الآشوريات يملك امتيازاً عظيماً جداً وثميناً جداً. لقد جعلني عاجزاً عن إيذاء أي كان في العالم، عن إزعاج أي كان، عن تعكير صفو أحد. ألا يعتبر ذلك في هذه الأوقات امتيازاً مدهشاً وشديد الندرة. لقد حيدني علم الآشوريات وجعلني جذرياً، غير مؤذ، لذا تمسكت به وما زلت مثابراً ” (6)
انتحالات التوراة من التراث المشرقي الكنعاني:
بداءة، ينبغي التأكيد على أن العبرانيين حين أتوا بلاد كنعان انتحلوا لغتهم واستخدموها وهذا ما وثقوه هم بأنفسهم حين جاء في توراتهم أنهم تكلموا شفة كنعان.
أما لجهة كتابة التوراة فقد كتبت بالآرامية المشرقية / الخط الآرامي المربع / ولم يجر تنقيط التوراة إلا في القرن العاشر الميلادي بتأثير من المدرسة العبرية في العصر الأندلسي. وتم ذلك بتأثير مما كان موجوداً في العربية هذه التي استمدت تنقيطها من السريانية ( د.محمد محفل 1991 ).
وإن كانت الأبحاث تذكر على أن التوارة ثُبت في القرن الرابع الميلادي، فإن هذا لم يتحقق حيث يذكر الدكتور محمد محفل من أن ما ورد في سفر أشعيا من أن اليهود تكلموا ” شفة كنعان ” أي لغة كنعان، جرى تزويره وتحويره. ففي عام 1976 ميلادي أصدرت جمعية التوراة الأمريكية طبعة جديدة للتوراة جرى فيها تحوير هذه الجملة إلى ” تكلموا اللغة العبرية ” وذلك في محاولة لتصحيح أخطاء الأحبار وكتّاب التوراة. (7)
وقد وصف كاسيدوفسكي في كتابه الواقع والأسطورة في التوراة أن الأمانة التاريخية كانت غريبة على كتاب التوراة، حيث استخدموا الأساطير التي توارثتها الأجيال في المشرق شفهياً كي يثبتوا أن يهوه هو الذي يتحكم بمصير شعبه المختار. (8)
والشيء الآخر الذي ينبغي ذكره هو أن المرجل الحضاري الكنعاني وعبر تاريخه كان يشكّل بوتقة تفاعل وتمازج مع أي أرومة تدخل بلاد كنعان، وليس أدل مع ذلك من اندخال وتفاعل الشعب الفلستي /من شعوب البحر، وهم الغزاة/ في صميم التفاعل الديمغرافي الحضاري بما أدى إلى اعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من النسيج الحضاري الكنعاني.
وعلى هذا فإن فرصة الاحتكاك التي أوجدها طروء العبرانيين في بلاد كنعان مع الواقع الاجتماعي الكنعاني كان يمكن أن تشكل نقطة مضيئة في تاريخ هذه الجماعة العبرانية وهو ما تحقق أحياناً في ما أبداه الأفراد العبرانيون من تفاعل سواء عبر الاعتقاد بآلهة كنعان أو الزواج من غير العبرانيين. ولكن تدخل أحبار المؤسسة الكهنوتية بشكل عنصري ومنغلق أدى إلى معاكسة التيار التمازجي والتفاعلي وهذا ما هو موثق بعد السبي حين عمد عزرا الكاهن عبر سِفره / سفر عزرا / من منع حصول التفاعل بين العبرانيين والمحيط الاجتماعي لهم لا بل وضرورة فصل عرى العائلات المختلطة في الزواج عبر تطليق النساء غير العبرانيات وإبعادهن هن وأولادهن عن الرجل/الزوج/ العبراني في اتجاه للحفاظ على نقاء العرق ! والدين !.
وعلى هذا نفهم قول ” فيليب حتّي ” من أن العبرانيين كانوا الشعب الوحيد من الشعوب القديمة الذي أنشأ شعوراً قومياً متطرفاًًً.
والآن لنحاول رصد الانتحالات التي أخذها كتّاب التوراة عن التراث المشرقي الكنعاني مع الإشارة إلى أن هذه الانتحالات كثيرة جداً وسبق أن نوقشت في كتب عديدة منها كتاب الدكتور” أحمد سوسه “: العرب واليهود في التاريخ بالإضافة إلى كتب الدكتور ” جرجي كنعان ” والأستاذ “مفيد عرنوق” وغيرهم.
غير أننا هنا سوف نشير إلى انتحالات ربما لم تحصل الإضاءة عليها بشكل كبير أو أن الاكتشافات الأثرية ولا سيما قراءة الوثائق المسمارية حديثاً قدمت ذخيرة لكشف الانتحالات وحتى المغالطات وكذلك معالم التحوير التي تبدت في حقد الأحبار العبرانيين على كل ما هو كنعاني ومشرقي.
يقول جان بوتيرو ” أنه وبالحقيقة وفي مجال التقدم الفكري والمادي على السواء، أخذ بنو إسرائيل كل شيء وتعلموا كل شيء من الكنعانيين بما في ذلك لغتهم” . (10)
والحقيقة أن اكتشاف مدينة أوغاريت عام /1929/ م ومن ثم وثائقها قدّم معطيات تؤكد مبلغ الانتحال الذي قام به أحبار المؤسسة الكهنوتية العبرانية.
يهوه:
يروي التوراة عن أن موسى التوراتي بعد أن فرّ من مصر بعد قتله لرجل مصري، وصل إلى قبيلة عربية هي قبيلة مديان حيث تزوج ابنة كاهن القبيلة وأخذ في عبادة إله هذه القبيلة الذي هو إله البراكين والصحراء !.
وإن نكن حذرين في تبني هذه القصة المختلقة، حيث تبين لنا أن لا تواجد عبراني في مصر ولا خروج من مصر وتيه في سيناء. فإن ما يهمنا في هذا السياق هو أنه حتى في حال أن موسى التوراتي أخذ الإله من القبيلة العربية لكن الذي جرى هو إسباغ الخصائص النفسية السلبية للأحبار على هذا الإله، لهذا سنجده في التوراة إلهاً متعطشاً للدماء، بطاش، وعنصري، تماماً كما عبّرت خافية الأحبار عن خصائصها.
وفي هذا المجال يذكر ول ديورانت أن اليهود عمدوا إلى أحد آلهة كنعان وصاغوه في الصورة التي كانوا هم عليها وجعلوا منه إلهاً ذا نزعة حربية، صلب المراس. ويذكر في كتابه الضخم ” قصة الحضارة ” أن اللقى الأثرية التي ظهرت في كنعان عام/ 1931 /م كان منها بعض القطع الخزفية التي تعود إلى 3000 قبل الميلاد عليها اسم الإله الكنعاني يهوه أو ياه. (11)
أما سبتينو موسكاتي فيذكر أن الإله يهوه كان معروفاً عند العرب وأن الناس كانوا يلحقون أسمائهم باسمه تبركاً به. (12)
ونشير في هذا المجال إلى ما أورده فريدريك ديليتش في كتابه ” بابل والكتاب المقدس” حيث يذكر فيه:
” حصلت بفضل مدير القسم المصري – الآشوري التابع للمتحف البريطاني على صورة ثلاثة ألواح طينية / رقيمات /.. وسوف تسألون: ماذا نستطيع أن نرى على هذه الألواح المصنوعة من الطين الهش بل المكسور وعليها خط منقوش غير واضح ؟ صحيح، ولكنها ذات قيمة كبيرة أولاً للتأكد من التاريخ الذي تعود إليه وهو عصر حمورابي وأحدها من فترة حكم أبيه سن موباليط. وثانياً للأهمية الكبرى التي تستمدها من ثلاثة أسماء مكتوب عليها والتي لها أهمية كبرى بالنسبة إلى التاريخ الديني وهذه الأسماء هي: ” يهوه هو الله ” (13) .
عبادة العجل الذهبي:
من المعلوم أن الشأن الاعتباري للثور وهو ما اصطلح على تسميته عبادة الثور، كان منتشراً في المشرق العربي منذ العصور الحجرية ولا سيما العصر الحجري الحديث وهذا الشأن الاعتقادي بقي منتشراً في العصور اللاحقة حيث نستطيع أن نوثقه في العصور التاريخية وفي نقوش الملاحم والأساطير المختلفة ولا سيما في أسطورة جلجامش.
ومن الطبيعي أن ينتشر هذا الأمر على مدى الوحدة الحضارية المشرقية بحيث أن الكنعانيين ذوي الثقافة الزراعية كان ينتشر هذا الاعتقاد لديهم.
والذي تبدى هو أن العبرانيين أخذوا هذا الشأن الاعتباري عن الكنعانيين مع ملاحظة أن هذا الأمر الاعتقادي بالثور لدى مجتمع المشرق العربي كان ذا مدلول خصبي يستند على ذهنية زراعية في حين أن عبادة العجل لدى العبرانيين أخذت سمات النمط الرعوي القبلي فأعطت انطباعاً عن عبادة حسية مبتذلة ورخيصة. وقد أكد كاسيدوفسكي هذا الأمر بقوله أن هذه العبادة لدى اليهود لا يمكن أن نستثني التأثير الكنعاني منها. (14)
وفي حوارات لنا مع الباحثة ” هيلنا زيدن ” ذكرت أن الإسرائيليين إلى الآن إذا عثروا على لقى أثرية في فلسطين تختص بالثور فإنهم يصنفونها على أنها آثار يهودية. وتضيف: رغم أن الثور المقدس كان ذا شأن في اعتقادات مجتمعات المشرق العربي القديم.(15)
وقد قدمت معطيات الثقافة الأوغاريتية ووثائقها المزيد من الانتحالات لتراث المشرق العربي.
فمثلاً أن المزمور الثامن والعشرين في التوراة يعطي تأكيداً على آثار النشيد الأوغاريتي وهذا يشير إلى التطابق المدهش في الأفكار العامة وتسمية الأماكن السورية المذكورة هناك، ثم يتبدى هذا الأمر في تأثير اللغة الأوغاريتية نفسها.
ولعل الأسفار الثاني عشر وحتى الخامس عشر الواردة في الإصحاح الخامس عشر من سفر اشعيا تعبّر عن اقتباس حرفي من الملحمة الأوغاريتية. (16)
أيضاً يمكننا رصد الأمثال والأقوال التوراتية المنتحلة عن الأصول الكنعانية.
ولعل المؤرخ البريطاني ” أرنولد توينبي ” يقارب هذه المسألة فيشير إلى أن الأعياد الخاصة بالسنة الطقسية اليهودية يفترض أنها تحييّ أحداثاً في تاريخ اليهود. إلا أن هذه الأعياد تحمل في طياتها أنها كانت أصلاً احتفالات لمواسم زراعية عند السوريين. (17)
وتقدم التوراة على أن سليمان التوراتي ألّف حوالي ألف نشيد وثلاثة آلاف مَثَل. ولكن تبين أن معظم بل جلّ هذه الأناشيد والأمثال تعود للتراث المشرقي البابلي والكنعاني وكذلك المصري.
وعودة إلى عام /1873/ ميلادي حيث كان قنصل بروسيا في دمشق السيد فيتزشتاني يراقب أعراس الفلاحين السوريين فأدهشه التشابه الكبير بين أغانيهم في تلك المناسبات ونشيد الإنشاء. يقول القنصل: يعدّ الأسبوع الأول بعد الزفاف أجمل أيام الفلاح السوري. فالعروسان يمثلان الملك والملكة وتقوم القرية كلها على خدمتهما.
وبعد أن يصف ما يجري في تلك الأعراس يضيف أن الأغاني التي كانت تُغنى هي عبارة عن قصائد غزلية تتجلى بالجمال الجسدي للعروسين وهذه خصلة منتشرة في بلدان المشرق العربي منذ القديم حيث يمكننا توثيقها في مجمل الأساطير والملاحم وقصائد الحب التي يزخر بها العالم الكتابي للمشرق القديم. (18)
وفي هذا المجال أيضاً حريّ بنا الإشارة إلى ما ورد في سفر التكوين التوراتي – الأصحاح 18 حيث أن يهوه التوراتي وشخصيتان قدسيتان / ملاكان / زاروا ابراهيم التوراتي الذي كان حزيناً لأن لا ولد لديه حيث يعده يهوه / الإله الزائر !/ بولد سوف يأتي.
في موازاة هذه القصة المنتحلة نقرأ في ملحمة أقهت ابن دانيال الأوغاريتية قبل كتابة التوراة بحوالي ألف سنة، أن الإله بعل يظهر لدانيال الحزين لعدم وجود ابن لديه حيث يعده بعل بولد يسميه أقهت.
الفارق بين الوثيقة الأوغاريتية والقصة التوراتية المنتحلة هو أن ابراهيم التوراتي كان يجلس أمام خيمته، في حين أن دانيال كان يجلس أمام بيته تبعاً لثقافة الشخصيتين.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو كيف اطلع الأحبار الذين كتبوا التوراة في القرن السادس قبل الميلاد على وثائق أوغاريت التي تعود إلى حوالي ألف سنة سالفة.
والحقيقة أن هذا يشير إلى عمق التداخل والتفاعل المشرقي بما يؤكد على الوحدة الحضارية للمشرق العربي القديم. فلا ريب أن مثل هذه الملاحم والقصص الأوغاريتية / الكنعانية / كانت تجري على الألسن بما يعني أنها كانت مرويات شعبية عمت مختلف مدن المشرق العربي وكان طبيعياً أن تنتقل إلى بلاد كنعان الجنوبية بحيث يتداولها الناس هناك وهذا ما جعل العبرانيين يطلعون عليها ومن ثم ينتحلوها ويدونوها في توراتهم.
ويشير الدكتور حتّي إلى أن اليهود حين طرأوا إلى كنعان اقتبسوا دفعة واحدة مجموعة من الطقوس والمشاهد والمراسيم القديمة وعبادة الحية والعجل الذهبي. بالإضافة إلى أن الأشعار التوراتية التي تتصف بالتوازي والمطابقة أخذت من الشعر الأوغاريتي. (19)
أيضاً أبانت الحياة اليومية في كنعان من خلال الوثائق أن ما ورد في سفر صموئيل الثاني من رقص لداود التوراتي أمام تابوت العهد، لم يكن سوى تقليد لرقصة كنعانية خصبية تختص بمظاهر الثقافة الزراعية. كما أن وثائق أوغاريت أبانت عن تحريم طبخ الجدي في لبن أمه. وهذا ما سوف نرى صداه في التوراة. ويعود حتّّي للتأكيد على أن العبرانيين اتبعوا النموذج الكنعاني في الموسيقى وعادات الدفن وفكرتهم نحو الحياة والموت وما بعده حتى أن لباسهم وحليّهم وحرفهم تتبع الأساليب الكنعانية.
ولا يغرب هنا عن بالنا أن قصة داود الذي قتل الرجل الفلسطيني إن هي إلا انتحال وسرقة من تراث المشرق الذي يتبدى في الحكايا الشعبية المتعلقة ببعل أو الخضر أو مار جرجس الذي يقتل التنين.
ويشير المؤرخ ترومان إلى أن جميع الأعياد اليهودية ما عدا الفصح كانت بالأصل من الطقوس الدينية الكنعانية.(20)
أيضاً تصف لنا وثائق أوغاريت أن لقب الإله بعل هو ” راكب السحب ” وهذا ما سنجد مطابقة له في وصف يهوه بـ ” راكب القفار “….كما أن صوت بعل في أوغاريت هو الرعد وهذا ما نجده في التوراة على أن صوت يهوه هو الرعد.
ويشير جيمس بريستد إلى أن مقدار التراتيل الكنعانية التي عثر عليها في أوغاريت تساوي نصف حجم كتاب المزامير في التوراة. (21)
أيضاً تذكر وثائق أوغاريت التكوينية / خلق العالم والإنسان / أن الإله يجلس على المياه ونجد في الإصحاح الأول من سفر التكوين أن روح الله ترفّ على المياه.
كما أن الأسطورة الأوغاريتية تشير إلى الإله بعل الذي انتصر على التنين لوياثان ذي الرؤوس السبعة. وهذا ما سنجده في التوراة في سفر أشعيا حيث أن الرب يعاقب بسيفه القاسي العظيم الشديد، لوياثان الحية الهاربة ويقتل التنين الذي في البحر.
وتشير أيضاً وثائق أوغاريت إلى ما يسمى بحق البكورة، حيث أن هذا التقليد يعبّر عن أن الابن الأكبر في العائلة له نصيب مضاعف وله وضع متميز بالبيت والعائلة الكنعانية، كونه هو الذي سيقدم العون لوالديه في سن الشيخوخة وهذا التصور عائد إلى الخلفية الكنعانية التي تعتبر أن الابن البكر يخص الإله أي أنه يتمتع بسمات مقدسة تميزه عن باقي الأخوة.
وتقتضي الأعراف الكنعانية بأن الأب يستطيع أن يحرم ابنه البكر من حق البكورة هذا إذا اقترف هذا الابن جريمة بحق أبيه / سرقة – عدم احترام..الخ /.
نلاحظ أن هذا التقليد الأوغاريتي تم انتحاله في التوراة حين باع عيسو التوراتي البكورة ليعقوب لقاء صحن من العدس !.
إن هذا يشي بمبلغ الاستخفاف الذي يحمله كتّاب التوراة لجوهر ومعنى النصوص والطقوس والتقاليد الكنعانية وفي مجال الزمن نلاحظ أن الكنعانيين قسموا الوقت العادي إلى دورات سباعية: سبعة أيام، سبع سنوات، وهذا ما انتقل إلى التوراة حرفياً.
كما أن وثائق أوغاريت أبانت عن مجموعة حكم وأمثال لشخص أوغاريتي يدعى شويبا فيلوم الحكيم، حيث نلاحظ تشابهاً واضحاً بينها وبين ما ورد في كتاب الأمثال التوراتي المعزو إلى سليمان التوراتي.
إن كتاب التوراة يطفح بمبلغ الانتحالات من كافة مجالات الحياة الكنعانية سواء الحرفية أو الزراعية أو الحقوقية أو الدينية أو الشعائرية والطقسية إلى ما هنالك.. وهذا ما يوضحه كاسيدوفسكي بقوله:
” لقد كان الكنعانيون قد بلغوا درجة عالية من الرقي لا تزال القبائل اليهودية المتنقلة بعيدة البعد كله عن بلوغها ولم يكن هذا التفوق الحضاري إلا أن يؤثر على اليهود المتنقلين الذين يعيشون في الخيام ” (22)
ويشير هذا الباحث في معرض مناقشته لنشيد الإنشاء التوراتي والذي نسب لسليمان التوراتي إلى أن المنشأ الفلوكلوري لنشيد الإنشاد التوراتي ينفي كون سليمان هو مؤلفه ويدحض بالتالي التقليد التوراتي نفسه. حيث أن النتائج التي توصل إليها العلم الحديث تؤكد صحة هذا الاستنتاج نهائياً. فقد تبين بنتيجة التحليل اللغوي لهذا النشيد أن لغته أحدث من اللغة العبرية القديمة إذ أن فيه من التعابير الآرامية والهلنستية ما يؤكد بصورة قاطعة أنه كتب بعد السبي البابلي أي بعد عام /532 /ق.م حينما كان تأثير الثقافة الإغريقية قوي جداً في فلسطين.
أما فيما يختص بكتاب الأمثال المعزو إلى سليمان التوراتي فتؤكد الأبحاث الأثرية أيضاً والتي جرت في مصر والمشرق العربي على عدم صحة التقليد الذي ينسب كتاب الأمثال إلى سليمان.
حيث أن الوثائق المصرية العائدة للفترة بين/ 2450-2315 /ق.م أمدتنا بوثائق تختص بأحد الأمراء المصريين المقيمين في قصر فرعون بحيث ورد فيها مجموعة نصائح حياتية وجهها إلى ابنه صيغت على شكل أمثال. (23)
كما أن الوثائق المسمارية السومرية والآشورية والكلدانية والكنعانية والتي تحتوي على مثل هذه الاتجاهات الذهنية تبين أن التوراة اقتبس عنها الكثير بعد أن نسبها إلى سليمان التوراتي.