
إستعادة بغداد حلماً
بغداد ليست رأسا رخوا للعراق، وجهاً مجعداً تتوسل أطرافها العليا والسفلى لأن تكون مركزاً وحسب.. فزاعة بستان .. عصا حَملها سليمان يوما حتى نخرها الدود فسقط مغشيا ، وبارت تجارة سلطانه وهيبته وملكه وهو واقف يدّعي الحياة!، جيبا للمسرفين بلا وطن .. وشماعة لأخطاء الجسد العراقي المقدّد، لا نريدها حيلة في خواصر البلد الكبير!
هي دارُ حكمة لكن جبينها يعرق من صبيّة يحومون على ابتلاع فمها تباعا.
من أسمائها الحسنى “المدورة، والزوراء ، ودار السلام ، ودار الخلافة..”
لا أريد لبغداد أن تكون “مدورة” ، كالكرة فيركلها الصبية من الساسة ويتلقفونها كما تلقف بنو أمية الخلافة وتوارثوها .. ف “لا جنة ولا نار””.
لا أن تكون دار خلافة تلعب” هاشم” بالملك فيها ..” فلا خبر جاء ولا وحيّ نزل”
ولا زوراء وهي عنوان للطارئين ، وأنا غريب عنها، وهي ليست ليّ، وكما يقول الطغرائي:
فيم الإقامة في الزوراء لا سكني بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
لا أود لبغداد ان تكون دارا للسلام .. والسلام منها كحمامة نوح التي غادرت السفينة ولم تأت…
نريدها بغداد… بغدادنا التي نتمطى على خطوط عرضها وطولها دون خوف ولا وجلٍ.
بغداد ليست مقاما لتهافت التهافت !
بغداد بكرخها ونهرها ، برصافتها وعذب مقامها.
مدينة طلّقت جراحها بالثلاث.. لا تجرحوّها مثنّىً وثلاث ورباع .. فقد قسا الزمان عليها، وجارت النائبات.. منذ تأسيسها وهي مدينة الدم …. وكأنها محسودة أبدا.. فكم مرّ على بابها من قتلة وكم استباح أسوارها من سفاحين؟
كم مرة فاض نهرك مهتاجا ودمرك؟
انتِ محاصرة بالماء والنار والنيّات..
لا نريدها مدينة للنواح والعويل ، وحشةً كمقبرة ، فخا للمحبين ولا سجنا صغيرا لبلد كبير.
بغداد .. مدينة باسلة ، بهيّة ، حلوة، نهارها شهي مائج.. مزدان بضوء الله ، وليلها باذخ بالحلم والليالي الحمر والمخيّلة.
بغداد مشكاة نور وسراج لنا.
بغداد تركل الطغاة الى مزابل التاريخ، كل الطغاة من ألفهم الى يائهم.
نعم كانت بغداد مدينة غريبة اليد والوجه واللسان .. اذا سار الفتى الجنوبي فيها سار بحرز وتعاويذ…
هاهي بغداد تنهض من سباتها .. تلمّلم جراحها بألق .. نريدها حلوة .. تسر الناظرين والصابرين..نريدها حضن العراق الدافىء الأمين.. نريدها رأس حكمته وتاج عنفوانه .. نريدها مدينة عراقية ، وقلبنا النابض بالمحبة والسلام…
بغداد . ها أنذا أسترجعك حلما أبيض.. أتذكر كلّ حجر في شارع المتنبي ودار الحكومة وكبة السراي، أتذكر هذا الشارع وأنا زائرمتجول وباحث عن الجديد في الفكر والادب والثقافة، واتذكره وأنا افرش” بسطتي” بائعا ما اقتنيت لان الحياة قد حاصرت اصابعي وشفتيّ .
كيف لا أتذكر أدباء العراق وصفوة شبابه وهم يفترشون الأرض ويصيحون على بضائعهم من فم شارع المتنبي من ناحية الرشيد- حيث عربات الفلافل والمقالي تصطف كسفرة مديدة زوادة للداخل للشارع والخارج منه الى مقهى الشاهبندر العتيد وقيصيرية المكتبات الغنية والارصفة الشهية بزاد العلم ولمعة الادب وجموح الشعر !
أتذكر كلّ شبرٍ من شارع الرشيد، وكعك السيد وحلاق الملك فيصل ، وحسن عجمي ومقهى أم كلثوم والزهاوي ..وو و حيطانها العتيقة.. أصغي الى الرصافي وهو يحاور الزهاوي، أنصت الى الجواهري وهو يخلع عمامته على أسوارك ويدخل شاعراً وثائراً .. أتذكر المربعه، وشارع النهر والسعدون والميدان والباب الشرقي والباب المعظم ومكتبة منصور وأبوابك حتى باب الشرقي والمعظم .. أتذكر الأعظمية وكمب سارة والكاظمية.. أتذكر عيد النوروز في سلمان باك
بغداد عشٌّ أحلم بالرجوع اليه.
أتذكرالطرق التي تؤدي الى ساحة الأندلس ” واتحاد الادباء” ” وما أدراك ما ساحة الشعراء وموقع جنونهم ووادي عبقر إلهامهم ” اتذكر بغداد ” وهل نسيت يا ولد !؟”
اتذكر فرقة المسرح الفني الحديث ومسرحها بغداد ، ومسرح الستين كرسي ، والوطني ، والرشيد ، ومنتدى المسرح، اتذكر شواطىء دجلة وليالي أبي نؤاس، اتذكر كاليريهات المدينة على ضفة النهر الخالد، واتذكر أكاديمية الفنون وسياجها المزدان بابداعات الفنانين ، كيف انسى قاعات الوزيرية الفنية ” حوار” واثر …
وليالي الوزيرية
أبوسها من شفتيها كرخا ورصافة
لا أضيف اليها اسماءً
بغداد ليست شاطراً ومشطوراً وبينهما كامخ! وتعريفات أُخرى من مجامع سياسية .
أدخلها من خواصرها، من أول قطرة ماء تتكاثف في سماء الله حتى تصير ثلجا على جبال كردستان ، أو تتساقط “بُردا” على أطياف جنوب العراق.لا أتمنى لبغداد أن تستودعني يوما كي اعيد نفسي منزوعا منها ،، كقمر بيد سابلة على مطرقة الشمس
أستودع الله في بغداد لي قمراً … عراقا ملء السمع والبصر..والمدينة تجاعيد لوطن كسيح، ووهم للنائحين على زعامات وكانتونات طائفية وعرقية ومذهبية مقيتة.
بغداد مدينة على مقام العراقيين كلهم بلا استثناء، وأحتسيها صرفا وممزوجة… ونحن على دين الفراتين .
بغداد أميرة البلاد .. بلا ملوك يموتون على قارعة القصور، ولا زعماء بلا قبور، ولا شهادة، ومباخر للفرقاء والبحث عن ” الفرقة الناجية””!لسنا في الطوفان .. واتونابشتم قال” لجلجامش” كلمته وغفى.
بغدادي طوق حمامة للراعفين على شمس لا تغيب .
بغدادنا باب ومفتاح، حلم وأمنية ..، قمر، هلال.. مدينة نديّة تخرج من حلم سقوطها في الدجلتين، مكتبة ملوّنة باحبارها ، بيومها . بكل تفاصيلها .
بغداد لا تقبل القسمة على اثنين، دارَ حلم وقرطاس وقلم ، مدونة لا تكتمل .. إلا بنا .. من كرة ثلج متزحلقة من ربى كردستان الى غنوة جنوبية ..بغداد سيدة العراق ، ولا سيد سواها.
من أقاصي الأرض …أستعيدها حلماً.
وديع شامخ
اديب وشاعر عراقي