العدو يركز على سياسة فرق تسد يستغل الطائفيين كلهم
مرت ذكرى وعد بلفور الذي أهدى فيه آرثر بلفور فلسطين لليهود لتكون كياناً صهيونيا مزروع في العالم العربي ليس في الشرق الأوسط، بل ورم سرطاني يمتد لأن العلاج ممنوع عنه.
لمن لا يعرف فإن وعد بلفور لا يقتصر على فلسطين المحتلة بل لتحقيق حلم الصهاينة بوطن كل يوم يذكر نتياهو العالم بخريطتها، فيما أصحاب الأرض المنظرة نائمون يهتمون بما يزرع في بيئتهم، والنقطة الأضعف والاكثر إنتشار هي الطائفية.
من هذا المنطلق لفتتا بحث عمق نشر في 01/11/2012 من قبل عمدة الإذاعة في الحزب السوري القومي الاجتماعي حمل عنوان “الطائفيون… عملاء الوكالة اليهودية في لبنان”. هذه تفاصيله:
بمناسبة ذكرى وعد بلفور الشنيع، يسرّ لجنة النشر أن تنشر محاضرة الرفيق الدكتور أمين حامد التي نظّمت مديرية الشوف المستقلة بعنوان: “الطائفيون عملاء الوكالة اليهودية”، في 24 آذار 2012، والتي كانت قد وعدت بنشرها سابقًا.
الطائفيون…. عملاء الوكالة اليهودية في لبنان
يبدو أن جميع من نسمع ونرى ونقرأ يمقتون الطائفية، على الأقل في الظاهر. أما الباطن فلا يعلمه إلا الله تعالى. فما إن تأتي على ذكر الطائفية في لقاء ما، حتى تلاحظ ردّة الفعل السلبية ضدّها، علمًا أن شيئًا ما لم يُقل حين كُرِّست الطائفية في الدستور اللبناني، كأفضل الطرق لـ «التوازن» الذي أوجده اتفاق ملوك الحرب الأهلية اللبنانية الذين تقاتلوا لسبعة عشر عامًا متواصلاً لتكريس مصالحهم الخاصة، التي استترت بالطوائفية لكي تكتسب وجهًا شرعيًا.
ومع أننا نشكّ في مقتهم المزعوم للطائفية، والادعاء بـِ «سلبية» الشعور الطائفي، فإننا نرى أنه لا بدّ من التفحّص الهادئ لهذه المسألة الخطيرة، للوقوف على دورها الخطر في الإبقاء على حال التشرذم والتراجع الذي شهدناه – وما زلنا نشهده – في تاريخنا المعاصر.
فالطائفية هي الوهم الحاصل من الشعور الجماعي بأن شخصية الجماعة الدينية هي الحاضن الرئيسي للخير العام. هي وهم بالارتياح والاستقرار النفسي أكثر منها حقيقة حية. ونقول إنها كذلك، لعلمنا التام بأن الجماعة المذهبية أو الدينية ليست وحدها مصدر القيم النفسية والأخلاقية المناقبية للفرد أو للأفراد مجتمعين، ولا للحماية ولا للشخصية الاجتماعية أو المعنوية التي تشكل ما نسميه «الجماعة» أو المجتمع. وهي حتمًا ليست الحاضن الأساسي للمصالح المادية الفردية أو الجماعية كما يتوهّم الكثيرون.
إنها المارد الذي يُستحضر كلما آن الأوان للتكتل والانسياق الأعمى غير الخاضع لأي تحليل نقدي. إنه «قميص عثمان» كلّ آن وأوان. ولا تكمن خطورة الطائفية فقط في أنها تحصر الخير العام في حدود الطائفة الدينية، بل أيضًا في أنها المعبر للعمالة والخيانة القومية، كونها تصبح «المبرّر» لهما، كما سنلاحظ في استعراضنا للفترة التي سبقت قيام كيان الاغتصاب اليهودي في فلسطين، حين اتُّخذت الطائفية ذريعة للاتصال باليهود وتشجيع الاستيطان في فلسطين، بحجة الخوف على «وجود الطائفة» فيما سُمِّي آنذاك بمشروع «تحالف الأقليات».
نشوء الطوائف عندنا
لا بدّ لنا من عودة خاطفة إلى التاريخ للتأمل في نشوء الشعور الطائفي في مجتمعنا. وعمر الطائفية عندنا من عمر الأديان السماوية تقريبًا. فمباشرة بعد انتشار المسيحية في القرن الميلادي الأول، انفرد المسيحيون ممّن كانوا يهودًا بالأصل، بإنشاء كنيسة خاصة بهم عرفت باسم «كنيسة الختان». الخلاف الأول كان على إذا ما كان من الواجب ختان المقبلين على الدين الجديد كفريضة أوصى بها موسى عملاً بالشريعة. لكن هذه الكنيسة تراجعت أمام دعوة بولس الرسول، الذي دعا الأمم كافة إلى الدين الجديد، من اليهود ومن غير اليهود، بادئًا ما عُرف بـِ «العهد الجديد»، منتصرًا على رأي بطرس رئيس كنيسة الختان، وفق التأريخ المتداول. ثم وبعد انتشار المسيحية في العالم القديم، انقسم المسيحيون إلى مذاهب تختلف حول طبيعة المسيح، أبَشَر هو أم إله، وسقط مئات الألوف في ذلك الصراع المذهبي، إلى زمن الملك جوستنيان الذي وفّق بين الكنائس تحت سقف الكنيسة الملكية، التي انقسمت بدورها بعد وفاته إلى الروم الملكيين الكاثوليك والأرثوذكس. واستمرت كنيسة روما الكاثوليكية إلى القرن الخامس عشر حيث قام كالفن ولوثر بإنشاء الكنيسة البروتستنطية، «الإصلاح» الذي انقسم بدوره إلى مذاهب تزيد بعددها اليوم في هذه الكنيسة البروتسطنتية على أكثر من أربعمئة مذهب في الولايات المتحدة الأميركية وحدها.
أما الإسلام المحمدي فقد انقسم سياسيًا وفلسفيًا بادئ الأمر في زمن نشوئه، وكانت شيعة الإمام علي حزبًا سياسيًا، تحولت بعد الإمام جعفر الصادق (الإمام السادس بعد الإمام علي) إلى مذهب ديني، ثم بعد ولده الإمام موسى الكاظم إلى مذهب الشيعة الاثني عشرية المعروف اليوم. وكانت الإسماعيلية قد انبثقت مباشرة بعد وفاة جعفر الصادق ومبايعة ولده الأكبر إسماعيل وانتشرت في تونس وكافة المغرب العربي فيما عُرف باسم الدولة الفاطمية التي امتدّت نحو الشرق، وتركزت في مصر، ومنها انبثق النصيريون والدروز والعلويون وغيرهم.
إن الانقسام كما نلاحظ من هذا الاختصار، هو من طبيعة التفكير الديني الماورائي. لكن جزءًا كبيرًا من التاريخ إنما هو تاريخ التناحر بين المذاهب، لا بين الأديان فقط. ففي التاريخ مذابح بين النساطرة واليعاقبة وهم مسيحيون. وهناك مذابح بين من قال بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح، ومن قالوا بالطبيعتين، وحروب أوروبا امتدّت لمئة عام بين الكاثوليك والبروتسطنت، وقد كان قيام الدولة الدينية سببًا في تفاقم النزاعات الطائفية في المسيحية والمحمدية على حدّ سواء.
أما عندنا هنا في سورية، فإن أول من أيقظ الفتنة الطائفية في بدايات القرن التاسع عشر، كان الأمبراطور الفرنسي نابوليون. كان هذا الأمبراطور قد أعطى اليهود الأوروبيين وعدًا بـِ «إعادتهم» إلى ما كان يُظَنّ أنها أرض آبائهم وأجدادهم. (واليهود أبدًا ليسوا أبرياء من التحريض على هذه «العودة» المزعومة). وكان أثرياء اليهود قد موّلوا حروب نابوليون المتواصلة في أوروبا ومدّوه بالمال حتى وقع في قبضتهم بديونه، فانقاد تحت ضغط الديون إلى «وعدهم» بالعودة إلى «أرض الميعاد». جرى هذا، أثر حملة نابوليون على الشرق واجتياحه مصر وفلسطين. والذي حصل هو أن الطاعون ضرب جيش نابوليون، ما اضطُرّه للعودة إلى فرنسا، تاركًا في مصر جيشًا مصريًا مدرّبًا على أيدي ضباطه بقيادة محمد علي باشا الوالي الألباني الأصل الذي أعلن عصيانه على العثمانيين الأتراك. أكمل إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا الاجتياح حتى وصل بجيشه إلى الإسكندرون، ومعه كان أوائل المستوطنين اليهود يدخلون فلسطين. ما يجب لفت الانتباه إليه في حملة ابراهيم باشا هذا، هو أنه استعان في قيادته لحملته على العثمانيين بالموظفين اليهود والمسيحيين، الأمر الذي ولّد نقمة على المسيحيين واليهود، من «مسلمي» سورية ودروزها، خاصة وأن الكنيسة المارونية كانت تسعى جاهدة لإثارة قضية الوجود المسيحي في الشرق «الإسلامي» وحقوق المسيحيين التي لم تكن كاملة في ظلّ الدولة العثمانية المسلمة المحمدية. هذا ما يسميه المؤرّخون (تأدّبًا) باسم «المسألة الشرقية». هذه المسألة الشرقية ذات الخلفية الطائفية كانت المدخل الذي استخدمته الإرادات الأجنبية للتدخل في سورية. ثم تلاه وعد بلفور الشهير أثر فشل وعد نابوليون المشار إليه.
وكانت الكنيسة المارونية قد حاولت الهيمنة على الغرب السوري منذ زمن فخر الدين المعني الثاني الكبير، إذ أنّ فخر الدين المعني استعان بالمسيحيين لإدارة ولايته التي كانت أيضًا عاصية على الدولة العثمانية. وكانت هذه الاستعانة بسبب كون المسيحيين متعلمين، وخاصة طبقة الإكليروس منهم. فأعانهم فخر الدين الثاني على الانتشار في مركز ولايته، الشوف والغرب وصيدا ووطّنهم في الشوف أولاً. أما قبل فخر الدين، فكان الموارنة يسكنون منطقة بشري وجوارها فقط، وقد قدموا إليها في زمن معاوية بن أبي سفيان بعد أن طردهم المسيحيون النساطرة من الشمال السوري. هذا الانتشار في وسط لبنان، كان على حساب الإقطاع الدرزي الذي كان يسكن المناطق المشار إليها، فكان لا بدّ له من الصدام بالإكليروس الماروني. وقد حاول الإكليروس الماروني «تنصير» فخر الدين نفسه، ولم يفلح، ولكنه نجح مع الأمير يوسف الشهابي، ومن ثم مع ابن أخيه الأمير بشير الثاني الشهابي. فكان تحول الأمراء الشهابيين إلى المذهب الماروني، مؤشرًا لبداية الصدام الماروني – الدرزي الذي أنتج مذابح 1840 و1860 بعدها.
لسنا اليوم بصدد تحديد من له الحق ومن عليه الحق في استفحال أمر الطائفية. من أخطأ ومن أصاب. لكننا ننطلق من السياق لقول حقيقتين يمكن البناء عليهما:
– الحقيقة الأولى أن الدولة ذات الصبغة الدينية لم تستطع في يوم من الأيام أن تحقق العدالة المتوازنة بين رعاياها، خاصة إذا كان الرعايا ينتمون إلى أكثر من مذهب في الدولة، وبالتالي وبما أن العدالة هي أهم ركائز الدولة، فالدولة التي تحمل صبغة الدين تحمل همًّا أوليًا واحدًا، وهو نشر المذهب على حساب الآخرين.
– والحقيقة الثانية وهي بناءٌ على الأولى، وتقضي بأنه، ونتيجة لغياب العدالة داخل الدولة، فإن الطوائف التي تعدّ نفسها مغبونة في داخل الدولة ذات الصبغة الدينية، ترى نفسها مضطرّة لطلب حماية من الخارج، فتصبح جسر عبور للمصالح الأجنبية التي تتطوع للحماية شكلاً، ولمدّ نفوذها مضمونًا. وهذا ما حصل عندنا في سورية وما نفهمه مما سيأتي توسيعه في مسألة العمالة لليهود قبيل نشوء الدولة اليهودية في الجزء السوري العزيز: فلسطين.
بناءً على ما تقدّم، فقد شكلت الصدامات الطائفية عامي 1840 و1860 بين المسيحيين والطوائف المحمدية من جهة، وغياب العدالة في الدولة العثمانية الدينية الطابع، سببًا يدعو المسيحيين عامة والموارنة بشكل خاص إلى النظر إلى الهجرة اليهودية إلى فلسطين، بأن لليهود «الحقّ» كما لباقي الأقليات في ممارسة وجودهم كطوائف وأقليات في مجموع «مسلم» كبير يهيمن على الدولة وينظر إليهم كـ «أهل ذمة». ويجب ألا ننسى أن هذا الفكر اللامسؤول، كان الفرصة الذهبية التي كانت قيادة الوكالة اليهودية تريدها لتشريع نفسها وتسويق مشروعها في سورية. لذلك قامت العلاقة بين اليهود وبعض المحيط السوري على مبدأ «تحالف الأقليات»، ضدّ ما ادّعوا أنه تهديد لوجودهم، وهو باعتقادهم «المحيط الإسلامي الكبير».
دور أحداث 1840 و 1860 الطائفية واستغلال اليهود لها
لا بدّ من التذكير بأن حملة ابراهيم باشا على سورية التي أتت استكمالاً لحملة نابوليون المنكودة الطالع، قد سببت نقمة المحمديين والدروز بشكل خاص، على المسيحيين الذين وجدوا في نابوليون أو ابراهيم باشا «مخلّصًا» لهم من النير العثماني. والنقمة هذه كبرت لأن أحد وزراء ابراهيم باشا كان مسيحيًا من آل البحري، كما ورد في تاريخ «لبنان وسورية وفلسطين تحت الحكم التركي» الذي كتبه سفير روسيا آنذاك – بازيلي – والذي كان مقيمًا في بيروت أثناء الحملة. هذا الوزير (أي البحري)، ولضمان سحق أية مقاومة للحملة المصرية، تعاون مع الأمير بشير الثاني الكبير لتجريد الفلاحين الدروز من كلّ ما هو «معدن» أي ليس من السلاح فقط، بل من المعاول والمحاريث والعدة الزراعية وغيرها. وكان الأتراك يسمحون للدروز بحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم ضدّ البدو العرب الذين كانوا يغيرون على القرى الدرزية لنهبها وترويع السكان. أضف إلى هذا الوزير المسيحي، أن وزير المالية لدى ابراهيم باشا الذي كان يقرر الضرائب ويفرضها كان يهوديًا من يهود فلسطين. جرت أولى المعارك بين الجيش المصري والدروز في «اللجى» التي فقد فيها الجيش المصري 11 ألف قتيل، وفقد الدروز معظم قراهم جرّاء الحرق والتهجير. أضف إلى ذلك أن الأمير بشير الثاني تآمر مع ابراهيم باشا ضدّ رعاياه من الدروز لأنه كان قد «تنصّر» وهو الحاكم على «جبل الدروز». فعلى أثر انكسار ابراهيم باشا عام 1839 في معركة في قرية بحرصاف قرب بكفيا، وانسحابه إلى مصر، وبعد أن أرضاه الأتراك بضم سيناء إلى مملكته، انقلبت نقمة الدروز وأصبحت على المسيحيين وحصلت صدامات مسلحة امتدت إلى جبل حوران ودمشق وعمّت جبل لبنان من شماله إلى جنوبه، وأذكى المتصرف التركي عمر باشا النمساوي نارها بعد نفي الأمير بشير. وقد تمت وقتها مبادلة التهجير، فهجر المسيحيون من بعقلين مثلاً إلى دير القمر، وهجر الدروز من دير القمر إلى بعقلين وبدأت الصدامات متقطعة مدة عشرين سنة، تُوِّجت بمذبحة عام 1860 التي انتهت ببروتوكول عام 1864، وأنشئت المتصرفية في جبل لبنان على أن يكون الحاكم مسيحيًا تركيًا، وتراجع نفوذ الإقطاع الدرزي إلى المناطق التي ما زال موجودًا فيها إلى اليوم.
على أثر أحداث 1860، تطوع يهوديان ثريان وذوَي نفوذ في فرنسا، هما اللورد مونتيفيوري والمسيو كريميو، لدعم المسيحيين في فرصة غير مسبوقة وجداها آنذاك. مونتيفيوري دعمهم ماديًا وإعلاميًا، وكريميو أقنع الحكومة الفرنسية بإرسال جيش لأنقاذ المسيحيين، وذلك في إطار المتصرفية. وكانت أحداث 1860 قد شهدت صراعًا طائفيًا في الجنوب هجّر فيه الشيعة الجنوبيون مسيحيي بلدة دير ميماس من الموارنة. فكانت هذه فرصة كريميو الذي كان قد أنشأ مدرسة في صيدا اسمها «الأليانس Alliance »،(هي واحدة من مئات المدارس التي أنشأها الاتحاد اليهودي العالمي نهاية القرن التاسع عشر في العديد من الدول)، استقبلت هذه المدرسة اليهودية أبناء المسيحيين المهجرين وعلّمتهم مجانًا – كافة المواد باستثناء التعليم الديني- وقام بنحاس نعمان، كبير الطائفة اليهودية في صيدا بطلب مساعدة مالية للنازحين المسيحيين، فاستجاب أثرياء اليهود، ممن كانوا يسعون لإيجاد حليف ما في مشروعهم لإنشاء «الوطن القومي»، لطلبه، وتلقى رسائل شكر من القيادات الدينية المارونية، وبقي بطاركة الطائفة المارونية يحفظون هذا «الجميل» لليهود. ثم حاولت البطريركية المارونية أن ترد «الجميل» لليهود بدعم «عودتهم» إلى فلسطين. وكانت هذه الصدامات الطائفية صيدًا ثمينًا لصحفي يهودي بيروتي اسمه ج. كالب، الذي نشر سلسلة أخبار الفظائع التي ارتكبها «المسلمون» ضدّ المسيحيين وقدم لائحة بها إلى وايزمن في محاولة منه لفكّ التحالف المسيحي – المحمدي في الأراضي الفلسطينية، هذا التحالف الذي كان قائمًا في وجه اليهود المهاجرين إلى فلسطين. وكان لهذا الصحفي اليد الطولى في إعلان معاهدة 26 آذار 1920 بين الوكالة اليهودية والطائفة المارونية أيام البطريرك الحويك. وقد وقع المعاهدة من جانب البطريركية السيد نجيب صفير ممثل البطريرك، وفيها تعترف البطريركية «بحق اليهود» في إنشاء دولة لهم في فلسطين مقابل اعتراف الوكالة بدولة مارونية في لبنان (وقد أُعلنت دولة لبنان الكبير بعد التوقيع على المعاهدة بأربعة أيام أي في 30 آذار 1920).
هكذا نرى كيف أن الطائفية كانت السبب المباشر الذي ساعد مؤامرة سلب فلسطين من قبل اليهود، ونفوذ الإرادات الأجنبية، بدلاً من أن تكون أمّتنا موحّدة في الوقفة تجاهها. يضاف إلى عامل الطائفية، اعتقاد واهم لبعض اللبنانيين المسيحيين، بأنهم امتداد لأوروبا المسيحية، ومن بقايا الحملات الصليبية، وأن المسيحيين في لبنان ليسوا «عربًا»، وهذا ما كان يعتقد به بعض السياسيين الطائفيين أمثال الرئيس إميل إدّه، وشارل دباس، وشارل القرم وغيره من منظّري «الفَيْنَقَة» و«التمايز العرقي» الذي كان رائجًا في الثلاثينيات من القرن العشرين.
المعلومات التي وفّرها أرشيف الوكالة اليهودية
في العام 1994 قامت الباحثة اليهودية لورا أيزنبرغ بالاطّلاع على أرشيف الوكالة اليهودية وأرشيف حاييم وايزمن وبن غوريون وأرشيف الهاغانا والجامعة العبرية وغيرها من الرسائل والمستندات، بالإضافة إلى المراسلات التي بعث بها المراسلون للوكالة اليهودية من بيروت في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، والتي تذيع المناقشات التي أجراها هؤلاء المراسلون مع مختلف المسؤولين والرتب السياسية والدينية اللبنانية، وفيها الاقتراحات والعروض التي تقدموا بها للوكالة والمسؤولين في قيادة اليهود المهاجرين إلى فلسطين، لإقامة علاقات صداقة معهم. ثم قدّمت المعلومات في كتاب هام عنونته: «لبنان في مخيلة الصهيونيين الأوائل، عدوّ عدوّي»، والذي اطّلعنا منه على ملفات الوكالة اليهودية وغيرها. هذا الكتاب ممنوع دخوله إلى لبنان بقرار من الأمن العام اللبناني، لأنه يفضح اتصالات اليهود بالقيادات السياسية والدينية اللبنانية وقد يسيء إلى خلفائهم اليوم. كما أنه يفضح الخلفية الطائفية التي كانت تتحكم بهؤلاء المسؤولين لأنهم ما كانوا يرون سوى مصالحهم الطائفية وحتى الأنانية الفردية الضيقة. ويجب أن نتذكر أنه في نفس الوقت، كانت سلطات الانتداب الفرنسي في لبنان، والبريطاني في فلسطين، قد اقترحت تقسيمًا لسورية بواسطة وزيري خارجية البلدين، سايكس وبيكو، ، قائمًا على مبدأ أن تكون لكافة الفئات الدينية في سورية، أوطان، في محاولة من الانتداب لتشريع وعدَيْ نابوليون وبلفور بإقامة وطن لليهود. وفي هذه الحالة، لن يكون هناك أي اعتراضات من أتباع الأديان والمذاهب على هذا التقسيم اللاحقوقي، لأن كلاًّ منهم يكون قد نال حصته. ويمكن الاطلاع على مرحلة قيام دولة لبنان الكبير الذي أعلن في 30 آذار عام 1920 لنرى كيف أن الحدود رسمت بشكل يجعل القرى المارونية (وليس القرى المسيحية الباقية) في كيان سياسي واحد. (نية الجنرال غورو كانت ضم اللاذقية ووادي النصارى قرب حماة إلى لبنان، لكن البطريرك الحويك اعترض على ذلك بحجة أن الروم الأرثوذكس سيشكلون الأكثرية فيما لو تم ذلك). وكان المشروع يقضي بأن تقام دولة سنية وأخرى علوية وثالثة درزية في الكيان الشامي من سورية، لكن السوريين قاوموا المشروع ونجحوا إلى حدٍّ ما في إبقاء الشام كيانًا واحدًا. وفعل الإنكليز الشيء نفسه في العراق وفلسطين، وبعد سكوت أبناء الشريف حسين عن الهجرة اليهودية إلى فلسطين، منحهم الإنكليز كيانًا لم يكن له اسمٌ، تاريخيًّا، فأطلقوا عليه تسمية TRANS JORDAN. ثم تحول الاسم إلى (شرق الأردن)، ثم الأردن. وكان البريطانيون يريدون أن يكون هذا الوطن بديلاً عما خسره الشريف حسين حين طرده الوهابيون من الحجاز، فسمحوا لابنه عبد الله بشراء الأراضي التي كانت أميرية ليكون مواطنًا في الدولة الجديدة الناشئة. ولم يكتفِ البريطانيون بذلك، بل ضمنوا أيضًا رضى الوهّابيين من الأسرة السعودية لتأمين عدم معارضتهم لهجرة «اليهود المساكين» – كما وصفهم الوهابيون السعوديون – إلى فلسطين.
مباشرة بعد وعد بلفور عام 1917 أنشأت بريطانيا ما يُسمّى باللجنة اليهودية (JEWISH COMMISSION) برئاسة حاييم وايزمن لتنظيم الهجرة اليهودية إلى فلسطين وإقامة المستوطنات. هذه اللجنة أنشأت داخلها ما سُمِّي بـِ «المكتب العربي» لإقامة العلاقات مع المحيط الفلسطيني وترأسه في البداية، حاييم وايزمن، ثم كالفارسكي الذي باشر برشوة المسؤولين «العرب»، ولكثرة الرشاوي، تهددت اللجنة بالإفلاس، فتحولت اللجنة اليهودية إلى ما سُمّي بالوكالة اليهودية عام 1929. ووسع نشاطها نحو إقامة الدولة اليهودية. وبحلول العام 1937 كانت الوكالة اليهودية تشكل دولة في قلب دولة الانتداب في فلسطين. اقترح أرسولوف، وهو رئيس المكتب السياسي في الوكالة، الاستعانة بالشباب اليهودي المنتشر في المدن العربية، وتجنيد المتطوعين اليهود ولجمع المعلومات التجسسية من هذه البلدان. تولى بن غوريون مهمة العمل لإقامة الدولة اليهودية بالاعتماد على العصابات العسكرية وكان مؤمنًا أن قوة اليهود وحدها ستؤمن اعتراف العالم العربي بالدولة اليهودية وترك الأمور الدبلوماسية لغيره.
اغتيل أرسولوف على يد المقاومة في فلسطين، فخلفه في رئاسة المكتب السياسي يهودي آخر اسمه موشيه شاريت، عرف أكثر باسم «شرتوك» ( وهو الذي أتى إلى بلودان بعد قيام الدولة اليهودية لمقابلة حسني الزعيم ودفع الرشوى له من أجل تسليم أنطون سعادة إلى رياض الصلح). وكان أحد موظفيه يهوديًا مقيمًا في بيروت ومنتسبًا شكلاً إلى الجامعة الأميركية واسمه إلياهو أبشتين وهو روسي الأصل. وموظف آخر من مساعدي شاريت وهو يهودي من دمشق، اسمه إلياهو ساسون (أصبح وزيرًا للخارجية فيما بعد). أبشتين هذا كان مقيمًا في بيروت كمراسل لصحف عديدة ووكالة رويترز وجريدة دافار العبرية. وهو الشخص الذي أنشأ صداقات الوكالة اليهودية مع السياسيين ورجال الدين اللبنانيين. سهّل أبشتين هذا عام 1932 زيارة الصحافي اللبناني جورج نقّاش إلى القدس، ورافقه في جولة لجمع المعلومات عن الوكالة اليهودية التي كان نقّاش معجبًا بها. وفي العام 1934، انهت الوكالة اليهودية مهمة أبشتين في لبنان، ودعته لترؤّس المكتب السياسي في الوكالة اليهودية – قسم الشرق الأدنى – ومهمته فيها إقامة الصلات مع البلدان العربية. أما ساسون، فقد ولد في دمشق ودرس في جامعة القديس يوسف في بيروت، وكانت اللغة العربية لغته الأم، فانتسب في بيروت إلى حركة القوميين العرب قبل أن ينتقل إلى فلسطين وينظم، في الوكالة اليهودية، العلاقات مع «الشخصيات العربية». فنجح في إقامة علاقات مع بعض سياسيي لبنان والشام. ومن اللحظة الأولى سعت الوكالة اليهودية إلى التفتيش عن شخصية مرموقة في المشرق العربي تعتمد عليها في التأثير على الشعب الثائر فيه. أما داخل فلسطين فكان يكفيهم إقامة روابط اقتصادية لأن فلسطين لم تكن مجتمعًا قائمًا بذاته مستقلاً عن باقي سورية. لذلك تواصلوا داخل فلسطين مع الملك عبد الله وفيصل من أبناء الشريف حسين. عملت الوكالة اليهودية أولاً على تبادل الخبرات والخدمات وأنشأت لهذا الغرض مجلة خاصة كان اسمها «فلسطين والشرق الأوسط» وأرسلت نسخها إلى المسؤولين في الشام ولبنان والعراق وتركية وإيران والسعودية، ركّز الكتاب من خلالها على الإنجازات العلمية والإدارية وعلى إمكانية الاستفادة منها في العالم العربي، وزيّنت للعالم العربي أن بإمكانهم تحويل الصحراء إلى جنّات. رفض قادة العالم العربي فكرة تبادل الخدمات، ولكن الوكالة نجحت في تركية وأثيوبيا وإيران( الشاه). واستغل ساسون أصله اليهودي المشرقي وخبرته في اللغة العربية، للتقرب من الصحفيين في بيروت ودمشق لضمان استخدامهم في تخفيف العداوة لليهود في العاصمتين. ( وقد نجح في ذلك حين طُرح قرار تقسيم فلسطين حيث أيدت بعض الأحزاب «العربية» قرار التقسيم).
ومن اللحظة الأولى كان رهان الوكالة على النظام الطائفي في لبنان، خاصة وأن الذهنية الطائفية السائدة فيه كانت تعتبر أن «عدوّ عدوّي صديقي» وإشاعة أخرى أطلقها ساسون نفسه في الصحف البيروتية وتقول: “بعد السبت يأتي دور الأحد”، أي أن دور المسيحيين سيأتي بعد دور اليهود في التهجير على أيدي الأكثرية الإسلامية.
طلب أبشتين من الحكم الفرنسي في لبنان السماح بزيارات السياح اليهود، وكان ذلك بعد انكشاف أمر الحزب السوري القومي الاجتماعي ودعوته لوحدة سورية الطبيعية، من أجل أن يساهم السياح اليهود في إقناع المسيحيين في لبنان أن الوحدة هذه ستذيبهم في المحيط الإسلامي. وأن وجود مسيحيين مؤيدين لقيام الدولة اليهودية سيقنع أوروبا بحقوقية الدولة اليهودية، وأن ليس كلّ الشرق ضدّ قيام هذه الدولة. ومن جهة أخرى سيسهّل ذلك عملية شراء الأراضي التي كان اليهود يخططون لها في كلّ مكان. ووضع أبشتين هذا منذ العام 1920 خططًا لاستغلال المياه في لبنان بحجة أن المياه «مصلحة مشتركة» للبنان وللدولة اليهودية. وكان من أخطر ما قام به أبشتين هذا تكليفه بملفّ محاربة أعداء اليهود بين المغتربين اللبنانيين. (وكما نعلم أن الحزب السوري القومي الاجتماعي كان الحزب الوحيد الذي اتجه زعيمه لتنظيم الاغتراب السوري وتجييشه للقضية القومية).
بداية الاتصالات باليهود في لبنان
في العام 1919 اقترح مسؤول لبناني اسمه نجيب صفير على حاييم وايزمن مشروعًا سياسيًا يقضي بإعطاء الشام للمسلمين السُنّة، ولبنان للمسيحيين الموارنة، وفلسطين لليهود واقترح أيضًا في اتصال بالوكالة اليهودية التنسيق بين الموارنة واليهود. (نجيب صفير هذا أصبح مساعدًا للبطريرك الماروني أنطوان عريضة بعد العام 1932). سمع موشيه شاريت – شرتوك – بهذا العرض، فالتقى عام 1920 بنجيب صفير هذا وأخذه للقاء أرسولوف الذي كان رئيسًا للمكتب السياسي في الوكالة اليهودية. فطلب صفير من أرسولوف تمويلاً لخطة الاتحاد اليهودي – الماروني، فأوفد أرسولوف لهذه الغاية موفدًا خاصًا إلى البطريرك الحويك (أنطوان عريضة كان مطرانًا آنذاك) هو فكتور جاكوبسن. جاكوبسن هذا كان كمعلمه وايزمن مؤمنًا «بتفوّق» اليهود والمسيحيين على المحيط المسلم. (ومن الجهة اللبنانية كان البطريرك عريضه والمطران أغناطيوس مبارك من المؤمنين كذلك بنظرية «التفوق» المسيحي الوهمية هذه. وكان من المؤمنين بهذه النظرية أيضًا الرئيس اللبناني إميل إدّه الذي أكد مرارًا وتكرارًا للوكالة اليهودية فهمه لليهود والموارنة كـ “أمتين شرقيتين متفوقتين على جيرانهم العرب واللتين يجمعهما الهدف نفسه – بناء جسر بين الحضارة الشرقية والغربية”. أما الرئيس ألفرد نقّاش فقد قال لموفد الوكالة اليهودية إن “لا مستقبل لأية أقلية في ظلّ دولة يهيمن عليها العرب، فاليهود والموارنة في نفس الموقع”. وقال ألفرد نقّاش كلامًا أخطر من هذا بكثير حين أعلن أن القرآن “حضّ المسلمين على العدوانية وعلى اللجوء إلى العنف وأن المسلمين عادة لا يكتفون بحصتهم بل يطلبون المزيد دائمًا، ، إنه لا يمكن الوثوق بهم لبعض المراكز الحكومية، وعلى العكس فإن اليهود والمسيحيين يثق بعضهم بالبعض الآخر وهم مهيأون للإمساك بالسلطة)”. ذكّر جاكوبسن البطريرك أن المسيحيين كانوا دائمًا «أهل ذمة» تمامًا كاليهود في الإسلام، وأن التهديد يطال الاثنين معًا من «دعاة الوحدة السورية» وأن التعاطف من الوكالة اليهودية مع المسيحيين أمر «غريزي».
وفي خطّ مواز، تحركت الوكالة اليهودية نحو الدروز في فلسطين ولبنان تطبيقًا لمبدأ تحالف الأقليات، فانتدبت الوكالة اليهودية دافيد كوهين، وإلياهو أبشتين وآهارون كوهين ويتسحاق بن زيفي لتوثيق العلاقة مع دروز لبنان وفلسطين، وساعد نجيب صفير على إتمام لقاء بين إلياهو ساسون وقادة دروز لبنانيين. لكن، وللتذكير، فإن امتداد الشعور القومي الاجتماعي في الأوساط اللبنانية بعد العام 1936، غلّب المعارضة المسيحية والدرزية على دعاة التقارب اليهودي – المسيحي واليهودي – الدرزي، بعد أن انتشر نور النهضة السورية القومية الاجتماعية التي أطلقها سعادة، وعاد اللبنانيون المسيحيون لاستلهام أفكار بطرس البستاني وجورج حكيم وميشال شيحا القادة الذين كانوا يرون في الشريك المسلم روح نهضة لبنان، ولا شك أن أفكار سعادة كان لها الأثر الأكبر في تحويل المسيحيين الفلسطينيين إلى قوة قومية معادية لليهود ولنظريتهم في تعاطف الأقليات..
شراء الأراضي
إن تعبير «أرض إسرائيل» لم يكن بالضرورة تلك الحدود المرسومة من الفرنسيين والإنكليز بين لبنان وفلسطين. لقد اعتبر المستوطنون الأوائل أن جنوب لبنان هو جزء حيوي من «أرض إسرائيل». سعى اليهود إلى شراء الأراضي في لبنان لبناء المستوطنات. زار حاييم وايزمن لبنان عام 1907 في جولة قرّر على أثرها إنشاء صناعات صغيرة الحجم داخل الحدود اللبنانية. الهدف كان صيدا وجوارها حيث قرر وايزمن بناء معملاً للصابون ومعملاً لتعليب عصير الليمون، ومعملاً لاستخراج زيت الزيتون. قدّر وايزمن حسبما ورد في مذكراته أنه يمكنه احتكار صناعة الزيت من خلال مصنعه هذا. وكان لليهود في صيدا جالية ناشطة وناديا أسسه مهاجرون من روسيا عام 1870. مهمة النادي كانت السعي لشراء الأراضي في جوار صيدا لا بل كان هذا النادي يعتبر صيدا المستعمرة اليهودية الأكبر في «أرض إسرائيل»، ذلك لأنهم وفي توراتهم زعموا أن صيدا هي «أرض نفتالي». هذا النادي سعى إلى إتمام صفقة شراء أرض قرب النبطية من مالكها المسيحي البيروتي لأنها بنظرهم واقعة داخل الحدود «المقدسة». لكن الصفقة لم تنجز لسببين:
– أولهما وجود قانون عثماني يمنع شراء الأراضي في منطقة الجليل.
– وثانيهما اتفاقية سايكس- بيكو التي جعلت الحدود عند الناقورة حدودًا بين انتدابين فرنسي وإنكليزي. لذلك توجهت اهتمامات اليهود نحو تأمين مصادر المياه فقط، من داخل حدود الانتداب الفرنسي. فطالب اليهود البريطانيين أن يكون الليطاني هو الحدود الشمالية لـ «إسرائيل»، لسهولة الدفاع عنها. أرسلت الوكالة اليهودية مهندسًا اسمه آرون (هارون) آرونسون، فقدّم للبريطانيين تقريرًا بأن الليطاني ضروري للزراعة في «إسرائيل»، وهو غير صالح للأراضي الواقعة شماله. وتبنى بن غوريون طرح آرونسون هذا وضغط بواسطة الانتداب البريطاني على الفرنسيين. فطلب البريطانيون من فرنسا تعديل الحدود الشمالية. رفض الفرنسيون هذا الطلب لأنهم كانوا يريدون توسيع حدود لبنان الصغير وضم كلّ الجنوب إليه. وعندما طُرح موضوع الليطاني في مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 تبنّى لويد جورج رئيس الحكومة البريطانية الطلب اليهودي، وإزاء الرفض الفرنسي، طلب لويد جورج التعويض عن الليطاني بتوسيع «الحدود الإسرائيلية» في الشمال الشرقي، فأضيف «إصبع الجليل» إلى الكيان اليهودي وحُرم لبنان من القرى التي كانت تقع فيه. تابع اليهود عملهم بشراء الأراضي معتبرين أن الحدود الشمالية غير مبتوت بها نهائيًا. وعوّض الانتداب الفرنسي على اليهود بتوقيع معاهدة «حسن الجوار» سامحين بالتبادل التجاري والسياحة والاستشفاء لليهود في لبنان عبر معبر المطلة (التي كانت تدفع ضرائبها للبنان). وتابعوا شراء الأراضي بواسطة أحد الإقطاعيين الدروز الذي نصحهم بالتركيز على منطقة نهر الأولي.
ولما تفاقمت عمليات شراء الأراضي، تدخل المندوب السامي الفرنسي لإيقاف الشراء لأن النفوذ البريطاني سيتبع الملكية اليهودية في حال توسعه. ونصح روتشلد بالتوقف عن الشراء. المفوض السامي دي جوفنيل دعا وايزمن وكيش من قادة الوكالة اليهودية إلى عشاء في بيروت عام 1926 عارضًا عليهم شراء الأراضي شمال سورية على الفرات وحول حلب امتدادًا جنوبًا نحو حمص، وإعادة «بعث» تدمر إلى الحياة. لكن الزائريْن أصرّا على الاستيطان في جنوب لبنان. فرفض دي جوفنيل مجدّدًا، وهذه الإيجابية تسجَّل له كمفوض سام. الإنكليز عارضوا فكرة دي جوفنيل في الاستيطان في الشمال السوري لأنها تتعارض مع وعد بلفور. فصرف المندوبان النظر عن الاستيطان في الشمال السوري. هذا وناهيك عن استباحة الإنكليز للأراضي الفلسطينية التي كانت «أميرية» أي مُلكًا عامًا أعطوها للمستوطنين وكأنها ملك لهم.
عندما رفض الفلسطينيون بيع أراضيهم لليهود، لجأ هؤلاء إلى بعض العائلات البيروتية السنية لشراء الأراضي بأسمائهم ثم إعادة بيعها لليهود. وهكذا تم شراء معظم الأراضي الفلسطينية من مالكيها الفلسطينيين.
– الأراضي الي اشتراها اليهود في منطقة الحولة كانت لأحد اللبنانيين الأرستقراطيين، والأراضي التي كان آل سرسق يملكونها في القدس بيعت لليهود عبر صفقات مع الوكالة اليهودية بأموال آل روتشلد.
– عام 1930 كان لدى الوكالة اليهودية وفر في العروض العقارية في لبنان وفلسطين والشام. بعض المهاجرين اللبنانيين عرضوا بيع أملاكهم على الوكالة اليهودية. لكن قرار الوكالة بعدم شراء الأراضي خارج حدود الانتداب البريطاني ومعارضة المندوب السامي الفرنسي، حمل الوكالة على رفض معظم العروض. ووصول هتلر إلى الحكم عام 1933 في ألمانيا جعل الوكالة تفكر في جلب المستوطنين اليهود من ألمانيا إلى فلسطين. عمل وايزمن مع الفرنسيين والإنكليز على ترحيل اليهود ممن تركوا ألمانيا إلى لبنان حيث لمس وايزمن ترحيبًا من بعض اللبنانيين بقدوم هؤلاء النازحين. (يومها، صرّح مدير بنك سورية ولبنان أن قدوم المستوطنين اليهود من ألمانيا إلى لبنان يعني قدوم الرساميل. وفي رسالة منه إلى وايزمن، قال له إن الشريط الساحلي اللبناني الممتد من فلسطين إلى بيروت، “تحت تصرف اليهود الألمان للبيع والاستصلاح إذا شاؤوا”. زار وايزمن باريس لعدة مرات بهذا الخصوص). وتحمّس إميل إدّه لهذا المشروع واقترح استقبال 100 ألف مهاجر يهودي من ألمانيا لموازنة النفوذ الإسلامي، لأن توطينهم سيكون في صيدا وصور. وعرض قيصر إدّه بيع أملاكه في البقاع اللبناني لليهود بحيث يستفيد البقاع من خبراتهم. وتحول الشاعر الماروني اللبناني شارل قرم إلى سمسار عقارات، وعرض سلسلة من العقارات والفيلات لبيعها لليهود على طول الشريط الساحلي اللبناني. وكذلك اشتغل نجيب صفير على نفس المشروع. وزار البطريرك عريضة حاخام الطائفة اليهودية في وادي أبو جميل في بيروت، ليذكّره بإحسان كريميو للمسيحيين عام 1860، وكان المطران مبارك يرافقه في تلك الزيارة. وقال المطران مبارك في كلمته أمام الحاخام:
“اليهود المطرودون من ألمانيا، ولئن لم تستقبلهم فلسطين، فأنني أقول: أهلاً بكم أيها اليهود، وإن قال غبطة البطريرك في كلمته إنه هو بطريرك اليهود، فأنا أعلن نفسي مطران اليهود.”
عرض البطريرك عريضة على اليهود عام 1937 أملاك البطريركية المارونية شمال بيروت أي في جونيه وجوارها لاستيطان اليهود المهاجرين فيها. لكن تقرير لجنة PEEL الذي أعلن في نفس العام تقسيم فلسطين وتحقيق حلم اليهود في إقامة وطن لهم فيها جعل الوكالة تركز على التوطين داخل الحدود الفلسطينية، كما أن كافة العروض اللبنانية أسقطها الانتداب الفرنسي الذي كان يخشى توطين اليهود في منطقة نفوذه خوفًا من امتداد النفوذ الإنكليزي كما أشرنا.
شخصيات لبنانية عميلة
البطريرك عريضة والمطران مبارك
لقد ورد اسم نجيب صفير كأول من قام بالاتصال بوايزمن، وورد اسم جورج نقّاش صاحب جريدة الأوريون كأول من زار القدس وتعرّف بواسطة أبشتين إلى مسؤولي الوكالة اليهودية. الشخصية الأبرز من الشخصيات اللبنانية الداعمة «للوطن اليهودي» كان البطريرك أنطوان عريضة. والسبب كما قلنا، صرّح به بنفسه أمام أبشتين، موفد الوكالة اليهودية إلى بكركي، عرفانًا بالجميل للدعم اليهودي للمسيحيين المهجرين من دير ميماس، والاعتقاد بأن المسيحيين في لبنان هم جزء من أوروبا. كان البطريرك عريضة والمطران أغناطيوس مبارك يؤمنان أن عدوّ المسيحيين الأول هم المسلمون. نُصِّب عريضة بطريركًا على الطائفة المارونية عام 1932، ( ويروي أبشتين في مذكراته أن عريضة أكثر عدائية للمسلمين من سلفه البطريرك الحويك). أرسل عريضة لوايزمن منذ العام 1934 رسالة يشيد فيها بـِ «بسالة الإسرائيليين» عارضًا خدمات المحامين الموارنة لقضيتهم. أما أغناطيوس مبارك فكان مطرانا لبيروت وكان يصرّح أن هناك شبهًا حضاريًا بين الموارنة والإسرائيليين خاصة في موقفهم من المسلمين. وعندما مال بعض الموارنة من رجال الدين، أمثال الخوري حبيب أسطفان إلى تأييد الملك فيصل في مقاومته للفرنسيين وأيّد حكومة الملك فيصل، استخدم المطران مبارك ضدّه الحرم البطريركي مما أدى بأسطفان إلى ترك لبنان نحو المغتربات الأميركية ليعمل كمحاضر في جامعاتها، وهناك تُوفّي ودفن.
كان البطريرك عريضة والمطران مبارك يزوران السياح اليهود في الفنادق اللبنانية لتشجيع السياحة إلى لبنان. وشجّعا الجامعة الأميركية على عقد اتفاق تبادل ثقافي بينها وبين الجامعة العبرية في القدس. ومن غريب الأمور أن أولى خرائط للبنان أُنتجت في الجامعة العبرية في القدس عام 1937 وخارطة أخرى للمواقع الزراعية في لبنان، وخارطة بمعدلات سقوط الأمطار، قدمت جميعها هدية للرئيس إميل إدّه.
إميل إدّه
أما من الشخصيات السياسية فكان إميل إدّه أبرز السياسيين اللبنانيين الذين أبدوا حماسًا لليهود، أيضًا بداعي الخوف من العدوّ المشترك – المسلمين – التقى أبشتين به عام 1931، خمس سنوات قبل أن يتسلم رئاسة الجمهورية (1936 – 1941) لم يكن إميل إدّه يتكلم بالعربية، ولم يستعمل اللغة العربية خلال مدة رئاسته، ولم يكن يرى تهديدًا للبنان سوى التهديد الإسلامي. عادى القوميين العرب والقوميين الاجتماعيين، ودعاة الوحدة السورية لأنه كان يصرّح أن ضمانة لبنان هو الغرب المسيحي. كان يرى في الحركة الصهيونية حليفًا طبيعيًا ودعم كلّ اقتراح لتعزيز العلاقات مع الوكالة اليهودية، ودافع عن البطريرك عريضة والمطران مبارك، وعندما زاره وفد من يهود بيروت مطالبينه بأن يكون لهم نائب في البرلمان اللبناني أجابهم قائلاً : “إنكم ممثلون أحسن تمثيل، أنا يهودي”.
نشرت لجنة تقصي حقائق أميركية برئاسة جاكوبسن عام 1933 تقريرها وفي مضمونها ما عرضه إميل إدّه وجورج نقّاش حول وجود تهديد «سوري» للبنان، وكلمة «سوري» في السياق المقصود تعني «مسلم»، ووجوب “اعتماد لبنان الدائم على سلطات الانتداب وعلى صداقته مع الوكالة اليهودية في فلسطين على قاعدة الوحدة بينهما، وفي حال انسحاب الانتداب يمكن حماية الخط الساحلي بقوة مشتركة”. بعد عامين، ناقش شرتوك مع البطريرك عريضة العرض الذي قدمه إدّه، وشارل قرم حول قيام تعاون لبناني – فلسطيني (أي يهودي) واستمرت المناقشات حتى نشر تقرير لجنة بيل عام 1937 حيث جدّد إدّه عرض الوحدة مع هذا «المجتمع الجديد» فطلبت الوكالة من شارل قرم إعداد دستور لهذه الوحدة. عاد قرم بعدها بمقالات عن رابطة يهودية – مارونية تبناها شرتوك مع تعديلات بسيطة لا تنسف اقتراح إدّه وقرم. نسف مشروع الوحدة هذه، اندلاع الحرب العالمية الثانية في أيلول 1939، وانقسمت حركة قرم الفينيقية إلى أحزاب متعددة فقال أبشتين يومها إن حركة قرم ماتت قبل أن تولد.
أصبح إميل إدّه رئيسًا للجمهورية اللبنانية منذ العام 1936 ويوم انتخابه اتصلت به الوكالة اليهودية للتهنئة وذكّرته بعرضه: “في مركزك الحالي ستتاح لك الفرصة لتطوير علاقة الصداقة بين بلادك وفلسطين (اليهودية) لمصلحة الاثنين معًا، وقال شرتوك على أثر لقاء إدّه وأبشتين في آب 1936 إن إدّه لم يتكلم فقط عن أمله بعلاقات صداقة مع الدولة اليهودية بل عن توقه إلى حلف ماروني – يهودي. فأرسل شرتوك أبشتين إلى إدّه لحضّه على الإسراع في إعلان الحلف وليقول له: لسنا بحاجة إلى انتظار توقيع معاهدة 1936 مع الانتداب لأن رئيس وزراء فرنسا اليوم – بلوم – هو الضمانة اليهودية للبنان في فرنسا من أجل توقيع معاهدة لبنانية – يهودية. لكن مع وجود هذه الضمانة كان إدّه يرى أن لا بدّ لتوقيع المعاهدة من موافقة المندوب السامي دي مارتل (المعروف بمعارضته لهكذا اتفاقية). وكان إدّه يريد بذلك الإيحاء للوكالة أن تضغط من باريس على دي مارتل للموافقة عليها. أرسل رئيس الوزراء بلوم تعليماته لدي مارتل بالموافقة على المعاهدة، لكن المفوض السامي رفض بإصرار ولم يجرؤ إدّه على مواجهته، فوضع شرتوك مشروع المعاهدة على الرفّ مؤقتًا. تواصل وايزمن مع إدّه بعد ذلك بواسطة موفد خاص (إسحق كادمي كوهين) في كانون أول1936 لأحياء الاتفاقية، وكان إدّه متحمّسًا لها، لكن دي مارتل عارضها مجدّدًا لأنها كانت تهدف إلى فصل جنوب لبنان عن لبنان الكبير، وتضمه إلى الكيان اليهودي وسيثير هذا حفيظة المسلمين ولن تسمح فرنسا بتعديل حدود الانتداب. عاد وايزمن وأرسل كوهين إلى دي مارتل للضغط عليه، لكن صلابة دي مارتل أفشلت جهود وايزمن في تضمين معاهدة 1936 الاتفاق الماروني – اليهودي.
شخصيات أخرى
هناك وزير كان اسمه «ألبير نقّاش»، لبناني متزوج من أمرأة يهودية سويسرية، وكان مستشاراً للبطريرك عريضة للشؤون الاقتصادية. التقى به أبشتين لأنه كان يعرف أقارب زوجته اليهودية. ألبير نقّاش هذا كان ممرًا للوكالة اليهودية للوصول من خلاله إلى شخصيات أخرى. فعرف أبشتين إلى البطريرك عريضة، وإلى ألفرد نقّاش القاضي الذي أصبح رئيسًا للجمهورية عام 1941 – 1943. وعرّف أبشتين أيضًا إلى جورج نقّاش صاحب جرية الأوريون. وقدم إلى أبشتين، الشاعر شارل قرم الذي كان قد أسس جمعية «الشباب الفينيقي». وكان شارل القرم من دعاة نزع المزايا العربية عن اللبنانيين لأنهم بنظره متحدّرون من الفينيقيين لا من «العرب». (وقد سجّل أبشتين في مذكراته أن البطريرك عريضة نفسه كان عضوًا في «الشبيبة الفينيقية»). عام 1935 اقترح شارل قرم إنشاء النادي الفلسطيني اللبناني لتقريب الموارنة إلى اليهود بالعلاقات الأدبية والفنية والثقافية. دعا أبشتين الفنانين والأدباء اللبنانيين لزيارة فلسطين. وأقيمت محاضرة في موضوع التحالف اليهودي – المسيحي ألقتها المحاضِرة اللبنانية ماري عجمي. شجع اليهود قيام المحاضرة وعنوانها لأنها تقسم التحالف الإسلامي – المسيحي الفلسطيني. وقامت من يومها جمعية تحالف فينيقي – يهودي أفادت اليهود سياسيًا لأنها أدّت إلى نشر وترجمة أكثر من 280 مقالاً في صحف لبنانية ودمشقية. كما أدت الجمعية خدمة أخرى لليهود عبر إنشاء صداقة مع جريدة الأوريون التي كان يملكها جورج نقّاش، وجريدة LA SYRIE التي كانت على لائحة الدفع المالي للوكالة اليهودية. كما أن المنشورات اليهودية وزعت تحت أسماء عربية وباللغة العربية. والطريف الذي تورده مدونات أرشيف الوكالة أن بعض الصحافيين اللبنانيين الذين كانوا على لوائح رواتب الوكالة اليهودية، كانوا ينشرون أحيانًا مقالات معادية للصهيونية حين تتأخر الوكالة في الدفع لهم، بقصد الابتزاز. بعد تفاقم هذا الوضع، ألغت الوكالة اليهودية الدفع للصحافيين اللبنانيين عام 1939.
تشارك البطريرك عريضة وألبير نقّاش بإنشاء بضعة مصانع ومراكز توليد الكهرباء في لبنان. وأعربا عن طموحهما بمشاركة الرسمال اليهودي لكي يبنوا معًا قوة اقتصادية هائلة في الشرق الأدنى. وأُنشئ في بيروت بنك ماروني – يهودي، ووهب البطريرك لأحد اليهود قطعة أرض كانت ملكًا للوقف البطريركي في الدامور، فأنشأ عليها مصنع «النور» للكبريت، كما بيع أحد الفنادق الذي كان يملكه أحد الموارنة في بيروت لمستثمر يهودي. ووظف البطريرك عريضة بعض اللبنانيين في شركة SHELL اليهودية للمشتقات النفطية. عرض البطريرك أيضًا على وايزمن شراء أسهم شركة قاديشا للكهرباء بواسطة المدعو جوزف رحمة أحد مساعديه في بكركي. وعندما لمس البطريرك تردّدًا من وايزمن، نصحه البطريرك بأن تملّك الأسهم في الشركات اللبنانية سيشجع الهجرة اليهودية إلى لبنان. أما ألبير نقّاش، فطلب مشاركة الوكالة اليهودية في مشروع الليطاني، فأرسلت الوكالة مهندسًا آخرًا، لكن المندوب السامي الفرنسي عارض مجدّدًا، فجدّد ألبير نقّاش عرضه بعد الاجتياح الإنكليزي لجنوب لبنان عام 1941 وجال نقّاش مع أبشتين في البقاع، لدراسة موقع السدّ من أجل مباشرة العمل بعد انتهاء الحرب.
شخصيات من خارج الدائرة المارونية
أقامت الوكالة اتصالات مع قيادات درزية منهم نجيب شقير وسلطان باشا الأطرش و«الست» نظيرة جنبلاط. لكن القيادات الدرزية هذه لم تكن في «مواقع المسؤولية» في الدول المجاورة. أما الاتصالات المثمرة، فكانت مع رياض الصلح الزعيم السني الناشط في الحركة القومية العربية، في لبنان والشام. وكان مهمًا لهم باعتباره الطرف الثاني في «الميثاق الوطني اللبناني» الذي تعارف عليه مع بشارة الخوري، وكان رئيسًا لوزراء لبنان بين الأعوام 1943 – 1945 و 1947 – 1951.
ابتدأ رياض الصلح اتصالاته بوايزمن وروتشلد عام 1921 واشتغل على عرض «تبادل الخبرات»، والخدمات. يقبل رياض الصلح بالدولة اليهودية في فلسطين، ويوظف اليهود أموالهم وخبراتهم في العالم العربي. وادّعى الصلح أمام وايزمن أن له تأثيرًا واسعًا في حركة القوميين العرب. وقال لوايزمن إنه إذا دعم اليهود مشروع سورية الكبرى (مشروع الملك عبدالله بن الحسين، وليس «سورية الطبيعية»التي هدف إليها الحزب السوري القومي الاجتماعي) سيصبح (أي الصلح) «بلفور العرب»، الأمر الذي سيسوّقه لدى الفلسطينيين. ورفع الصلح هذا المشروع لبن غوريون وموشيه شاريت عام 1934 ولوايزمن عام 1936. مباشرة بعد تقديمه العرض لوايزمن اندلعت الاشتباكات في فلسطين، فتظاهر الصلح بالعداء للحركة الصهيونية بعد نجاح الثوار النسبي، وقيام الإضراب الشعبي العام، ليعود بعدها بمقترحاته إلى الفلسطينيين في محاولة لإقناعهم. لقد استمر الصلح بقبض الأموال من شاريت حتى بعد تسلمه منصب رئاسة الوزراء في لبنان واستقلال لبنان عام 1943. وهنا لا ننسى قصة كامل الحسين، الجاسوس الذي كان يحمل أموالاً لرياض الصلح ومجيد إرسلان (وزير الدفاع اللبناني) عام 1949 والذي علم به حسني الزعيم فأرسل الضابط أكرم طبارة لقتل كامل الحسين والاستيلاء على المال مطالبًا بـِ «حصته». لكن الصلح اعتقل الضابط طبارة وبادله بعد أيام بأنطون سعادة اللاجئ إلى الشام بعد حادث الجميزة الشهير، وقد تدخل يومها موشيه شاريت ودفع لحسني الزعيم «حصته» في بلودان حسب اعتراف ضابط المخابرات السورية سامي جمعة في كتاب «أوراق من دفتر الوطن».
لقد أثمرت الاتصالات اليهودية مع الدروز أكثر منها مع الموارنة. فإدّه لم يجرؤ على مجابهة دي مارتل وتسويق الاتفاق الماروني – اليهودي مع شرتوك وأبشتين ووايزمن، بالرغم من حماسه الشديد له. لكن الوفود التي أرسلتها الوكالة اليهودية إلى القيادات الدرزية، وخاصة إلى الست نظيرة جنبلاط وسلطان باشا الأطرش أفلحت في منع الثوار الدروز من المشاركة في انتفاضتي عام 1936 و 1948. الا أن الدعم الأكبر للوكالة اليهودية لم يأت من الموارنة أو من الدروز فقط، بل أتى من رئيس الوزراء اللبناني( السني) خير الدين الأحدب ومن فخري النشاشيبي منافس المفتي أمين الحسيني في فلسطين. ففي العام 1938 زار الأحدب الوكالة اليهودية في فلسطين والتقى موشيه شاريت وطلب منه الدعم المالي لأن “جماعة إدّه يضعفون” كما صرّح هناك. وأن المفتي الحسيني حوّل بيروت إلى “مركز دعاية للعروبة والأرهاب”. طلب الأحدب مساعدة الانتداب على طرد الحاج أمين الحسيني من لبنان، ومع أنه لم يبق في السلطة سوى ثلاثة أشهر، خسر بعدها السلطة، لكنه بقي على اتصال بالوكالة اليهودية.
أما فخري النشاشيبي فقد تعهد للوكالة اليهودية التخلص من “أعداء الشعب اليهودي” وطرد المفتي الحسيني من لبنان. كما تعهد بالتحرك المسلح لقمع التظاهرات المعادية لليهود عسكريا، وتأسيس حركة سياسية تدعو للوفاق مع الوكالة اليهودية، مقابل أن تدعم الوكالة ماديا تحركه، وتدفع له لإنشاء جريدة تدعم حركته. الا أن ضخامة المبالغ التي طلبها النشاشيبي جعلت الوكالة تهمل طلبه.
اندلعت الحرب العالمية الثانية في أيلول 1939 فأعلن المفوض السامي الفرنسي بيو حالة الطوارئ وعلق الدستور وحل مجلس النواب وحد من صلاحيات رئيس الجمهورية إميل إدّه. اتصل إدّه بساسون وطلب منه أعادة العلاقات مع الوكالة اليهودية فوعده ساسون بزيارته كلما أتى إلى بيروت. وهكذا صار إلى أن سقطت باريس بيد النازيين عام 1940. استبدل النازيون ( أي حكومة فيشي)، بيو بالجنرال دانتز. اشتدت المظاهرات في بيروت فطلب دانتز من إدّه الاستقالة، فخسر إدّه الرئاسة وخسرت الوكالة اليهودية أقوى مؤيديها في بيروت.
عين دانتز ألفرد نقّاش رئيسا للجمهورية في نيسان 1941. لا تختلف حماسة ألفرد نقّاش عن حماسة إدّه للوكالة اليهودية ولا في مسألة البغض للمسلمين. لكن علاقة ألفرد نقّاش بالبطريرك عريضة كانت علاقة باردة. اجتاحت القوات البريطانية بيروت بعد شهرين ( حزيران 1941 ) ووعدت اللبنانيين بالاستقلال. حل الجنرال كاترو محل دانتز، فأسرع ساسون إلى بيروت لاستطلاع الوضع، فلمس تقلص نفوذ إدّه وجماعته لصالح بشارة الخوري، والتقى ساسون بالمطران عبدالله خوري، ابن عم بشارة، الذي أفاده أن أحدا لم يعد يستشير البطريرك عريضة في سياسة لبنان. وبعد أن انضم أبشتين لساسون في زيارة ألفرد نقّاش أكد نقّاش لأبشتين وساسون استمراره بدعم قيام علاقة وطيدة مع اليهود في فلسطين رغم علاقته السيئة بالبطريرك.
قرر كاترو انتخابات نيابية في العام 1943، وخاف من نجاح بشارة الخوري فيها لأنه إنكليزي الهوى، وعارض إدّه وألفرد نقّاش الانتخابات، وأيدها بشارة الخوري والمسلمون في لبنان. وتحت ضغط الإنكليز، سمح كاترو بالانتخابات في خريف 1943. عنوان المنافسة كانت علاقة لبنان بالعالم العربي. نجح بشارة الخوري في الانتخابات وعدل الدستور في 11 تشرين الثاني 1943. فاعتقله المفوض السامي «هلّو» ورياض الصلح وكميل شمعون وعادل عسيران في قلعة راشيا. وعين إميل إدّه مكانه. وكانت معركة استقلال لبنان في 22 تشرين الثاني 1943، بعد أن بنى بشارة الخوري سمعته السياسية على انتقاده لمشاركة لبنان في معرض تل أبيب عام 1936. فاكتسب قبولاً في العالم العربي. وسوق نفسه لدى العالم العربي كمعاد للصهيونية.
حتى بعد استقلال لبنان، استمر البطريرك عريضة بتقديم عروض شراء الأراضي للوكالة اليهودية، لكن أقرار اللبنانيين لميثاق 1943 شكل ضربة قاضية لأحلام اليهود بالتملك في لبنان.
التوجّه نحو الولايات المتحدة الأميركية
استمر المطران مبارك في مهاجمة سياسة بشارة الخوري، وأدان البطريرك عريضة سياسة «وجه لبنان العربي»، وسرب ألفرد نقّاش للصحافة اليهودية خبرا مفاده أنه يجتمع مع عريضة وإدّه للحفاظ على وجه لبنان ضدّ «تعريبه». وضغط إدّه مرات على الوكالة اليهودية لكي تعيده إلى منصب الرئاسة في انتخابات 1947القادمة، واعدا الوكالة في حال أعادة انتخابه، بتوقيع معاهدة صداقة مع الوكالة اليهودية. فنقل باري روبين رسائل من وايزمن ومن إدّه- عريضة – نقّاش، إلى الرئيس الأميركي روزفلت بواسطة وسيط الوكالة – أرازي – فيها أدانة للجامعة العربية وضد استيعاب العرب للبنان. مرفقة بدعوات «لأنقاذ المسيحيين»، وبدعوة أيوب ثابت والبطريرك عريضة لأشراك المغتربين في أي تصويت في لبنان. ومبارك دعا علانية لفصل الجنوب عن لبنان للحفاظ على الأكثرية المارونية، وضمه إلى سورية، وحماية فرنسا العسكرية. ( ورد هذا في تقرير آفي ممثل الوكال اليهودية في بيروت). وكان إدّه قد اقترح هذا عام 1926 وأرسل أبنه (لم يسم التقرير أي أبن كان هذا من أبنائه) إلى وايزمن لأثارة الموضوع مجدّدًا عام 1945. علق وايزمن على اقتراح إدّه في مجلس الوكالة قائلا: “آخر شيء أريد قوله وربما ترونه مضحكا، أنتم تعرفون الاضطرابات في لبنان، أبن الرئيس اللبناني السابق أتى ألي، وهو مسيحي متعلق بالفرنسيين تعلقا شديدا، مع عرض يقول أنه يريد تسليمنا صور وصيدا وضمها للوطن اليهودي. ويبدو أنهم يريدون فعل ذلك لأن في هاتين المدينتين أكثر من 100 ألف مسلم. فأجبته أن جدي كان يقول لي: أياك أن تقبل هدية تحتاج إلى الطعام. لكنه لم يرد أن يغادر وقال إنه سيعود لاحقا”.
أعاد إدّه عرضه لمرة ثالثة عام 1946 بواسطة أرازي، إلى موشيه شاريت. وقال أرازي إن سفير الفاتيكان كان يؤيد الفكرة. والمطران مبارك أقنع الجنرال سبيرز بجدوى الاقتراح. ذعر عريضة عندما اقترح الإنكليز على الفرنسيين تعديل الحدود وضم قرى من شمال فلسطين إلى لبنان، وكتب لوزير الخارجية البريطاني رسالة حذره فيها من زيادة عدد المسلمين بهذه العملية.
فقد إميل إدّه الأمل بتعاون الفرنسيين معه، فلجأ إلى الأميركان واعدا الرئيس الأميركي – أذا ضمن استقلال لبنان – بمرافئ وقواعد جوية وفرص اقتصادية وسيطرة أميركية على سياسة لبنان الخارجية. ويفتح هذا ملف الاتصالات المارونية اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية التي بادر بها أبشتين بعد تعيينه في واشنطن، عبر شارل قرم. وكان لبنان قد شارك في معرض نيويورك عام 1939، وكان الياس شمعون يومها يرأس الجالية المارونية في الولايات المتحدة.
عام 1941، اقترح إميل إدّه على إلياهو ساسون أنه “بمساعدة الصهيونية، يمكن تجنيد الموارنة في المهجر، فالتقى في العام التالي برنارد جوزف بالرئيس ألفرد نقّاش الذي طلب أرسال موفد من نقّاش إلى روزفلت، يطلب منه دعم يهود أميركا للبنان. على الأثر سافر موفد من الوكالة اليهودية إلى لبنان ليجد أن عريضة وعبدالله خوري وألفرد نقّاش وإميل إدّه وأيوب ثابت موافقون على تنسيق جهود الموارنة والصهيونيين في المغتربات.
أرسل البطريرك عريضة المونسنيور بول عقل ليحرض على مسلمي لبنان ويعلن دعمه للصهيونية في فلسطين. وأرسل موفد ثان من البطريرك هو حبيب عواد للاتصال بالبيت الأبيض. ثم أرسل موفدان هما المونسنيور معلوف والياس حرفوش، لكن أبشتين طالب بموفدين ذوي خبرة، فأرسل الشيخ توفيق عواد لكن مهمته لم تنجز. فوجد أبشتين ضالته في أحد القيادات المارونية في الولايات المتحدة، هو المدعو سلوم مكرزل أحد أصحاب جريدة «الهدى» التي كانت تصدر في بروكلن – نيويورك. استخدم سلوم جريدته لمعاداة الإسلام ولأدانة الجامعة العربية، وسياسة بشارة الخوري القائمة على الميثاق الوطني ( التعايش المسلم – المسيحي)، مسوقا نفسه كصديق للصهيونية داعيًا أبشتين بـِ «الحليف».
ثم التقى أرازي بموفد لبنان إلى الأمم المتحدة الأستاذ شارل مالك، في محاولة للتأثير عليه واستمالته نحو الصهيونية. ولما لم ينجح التقى به أبشتين لأنه كان صديقه أيام الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت. لكن شارل مالك لم يصبح حليفا للصهيونية رغم تخوفه من المسلمين، وكان يعلن دائمًا أن لبنان لا يقوم ألا على تعاون المسلمين والمسيحيين. فغطى شارل مالك بلباقته الدبلوماسية على كافة الموفدين إليه من الوكالة اليهودية.
الحليف الجديد… حزب الكتائب اللبنانية
خسرت الوكالة اليهودية حلفاءها – إدّه، قرم، عريضة – بعد الانتخابات عام 1947. فتطلعت الوكالة إلى حليف جديد وهو حزب الكتائب اللبنانية. كانت الكتائب تطالب بالحماية الفرنسية للبنان، لكن «رابطة الأحزاب المعادية للصهيونية»، ومنها الكتائب كانت قد وقعت وثيقة عام 1945، جعلت الوكالة حذرة في التعاطي مع الكتائب.
ورغم أن أبشتين كان يأمل عام 1937 أن يشهد أصدقاء الوكالة اليهودية أمام لجنة PEEL إلى جانب اليهود، فالمفاجئ أن بيار الجميّل شهد أمام اللجنة أن زيادة عدد اليهود في فلسطين سيشكّل خطرًا على لبنان، لأن اليهود سيأتون إلى فلسطين بالتكنولوجيا والأفكار المتطورة. ومع أن تقرير لجنة بيل أوصى بالسماح لمئة ألف يهودي بالهجرة إلى فلسطين «لأسباب إنسانية»، شارك حزب الكتائب في المظاهرات ضدّ توصيات لجنة بيل. وعلى الأثر أوفد البطريرك السيد توفيق عطية إلى تل أبيب للاجتماع برئيس المكتب السياسي ياكوف شيموني للتنسيق ضدّ «المد العروبي» وإنشاء جريدة تصرف عليها الوكالة اليهودية وتدريب عناصر حزب الكتائب. نقل شيموني الأمر إلى برنارد جوزف الذي نقله بدوره إلى دافيد هاكوهين من أجل السعي للحصول على أذن دخول لشيموني إلى بيروت. أثناء الزيارة إلى بيروت أكتشف شيموني أن مبادرة عطية ليست من البطريرك بل من حزب الكتائب. وأن الكتائب تحاول تسخير خبرات الوكالة اليهودية وخاصة الهاغاناه لصالحها، واكتشف كذلك أن للكتائب مواقف «معلنة» ضدّ الصهيونية، لكن لها مواقف «باطنية» لمحالفة الصهيونية. وبعد أن خذل إميل إدّه الوكالة اليهودية بعدم إعلان مواقف علنية مؤيدة لهم كان الجميّل يرى أنه يستفيد فيا لو عوضهم عن خذلان إدّه لهم.
عاد توفيق يوسف عواد وحيدا هذه المرة إلى فلسطين بدون عطية، طالبا مساعدة خبرات الوكالة اليهودية في الشؤون الزراعية والتقنية ( التي أعلن بيار الجميّل أمام لجنة بيل أنها خطر على لبنان ). دبر ساسون لعواد لقاء مع برنارد جوزف الذي اشترط على عواد المبادرة من الكتائب في تقوية الروابط وإعلانها. ومن ثم العودة مع رسالة تفويض من البطريرك عريضة لتمثيل الكنيسة أيضًا. فعاد في المرة الثانية مع الرسالة المطلوبة.
اجتمع ساسون وعواد وشيموني وأعلنت معاهدة 30 أيار 1946 وفيها اعتراف الكنيسة بالدولة اليهودية المستقلة في فلسطين وتأييد الكنيسة للهجرة اليهودية اليها. وأقرت الوكالة في هذه المعاهدة أن لا أطماع لها في الأراضي اللبنانية وبالتعاون من أجل القضاء على القوى التي تعادي اليهود والموارنة وأهدافهم. وكذلك نصت المعاهدة على التبادل الثقافي والتجاري والاستخباراتي وعلى مشاريع زراعية وصناعية مشتركة، وعلى التعاون الأمني والعلاقات العامة وتسهيل الكنيسة الهجرة لليهود إلى فلسطين وأن تكون المعاهدة جزءا من سياسة الحكومة اللبنانية في حال تسلم هذا الفريق السلطة. واتفق على أبقاء هذه المعاهدة سرية، واستمرت الاتصالات «مرمزة» بعدها، – «وديع» في بيروت، وMOTHER أي الأم في القدس، لا بل وتفيدنا أوراق الوكالة أن زيارات كانت تتم بين «وديع» و«الأم» أثمرت دعما «لوديع» في جريدته التي كانت تصدر في بيروت تحت اسم «صوت الأحرار». وتبادل ساسون الرسائل مع عريضة وزار موفد الوكالة «لوتزكي» البطريرك في تموز 1947 لتفعيل المكتب الماروني في الولايات المتحدة. وأشرف لوتزكي بنفسه على توقيع رسالة من البطريرك إلى سلوم مكرزل يعلن فيها دعما معلنا لقيام الدولة اليهودية. أدعى عريضة أن كافة المطارنة الموارنة يؤيدونه في هذا الإعلان، ألا أن لوتزكي نفسه اشتكى من عداء المطران بيار عواد العلني لمشروع الصهيونية.
مع قدوم لجنة UNSCOP، ومع أن لوتزكي كان مجتمعا بإميل إدّه قبل لحظات من شهادته أمام هذه اللجنة، فأن إدّه لم يجرؤ على إعلان تأييده لقيام الدولة اليهودية ولا لقرار التقسيم المطروح أمامه، ولكنه تفوه أمام اللجنة بكلام دبلوماسي قال بوجوب بقاء لبنان على توافق مع كافة جيرانه. لكن الذي كان جريئا في رفضه لقرار التقسيم ولقيام الدولة اليهودية كان كميل شمعون، وحميد فرنجية من قيادات الموارنة. وحده المطران مبارك أعلن تأييده العلني للتقسيم ولمشروع الوكالة اليهودية ما أدى إلى خروج اللبنانيين بتظاهرات شاجبة، ألزمت البطريرك الماروني بالتنكر لكل اتفاقاته السابقة مع اليهود واتصالاته وتصريحه بأن لبنان لا يمكن له أن يبقى إلا بالتعايش الإسلامي – المسيحي. وقال البطريرك في تصريح له لجريدة الحياة إن المطران مبارك لا يعبّر عن رأي الموارنة، ولكنه يعبّر عن رأيه الخاص. حمل كميل شمعون تصريح المطران مبارك إلى مجلس الوزراء، وطلب من البطريرك نفي مبارك إلى أحد الأديرة وعمل سفير لبنان في الفاتيكان – شارل حلو – على نقل اقتراح إلى البابا في روما بعزل المطران مبارك وإبعاده عن السياسة، وهكذا حصل.
أدى تحول عريضة المفاجئ هذا إلى خلاف علني مع توفيق يوسف عواد الذي أذاع أن البطريرك هو الذي أوفده إلى الوكالة اليهودية لتوقيع معاهدة 1947 فاتهمه البطريرك بالكذب وساعدته الوكالة اليهودية عن طريق أبقاء المعاهدة طي الكتمان في تفهم منها لحراجة موقف حليفها.
ومع محاولة كميل شمعون مندوب لبنان في الأمم المتحدة منع صدور قرار التقسيم عن طريق سعيه لعدم تأمين تصويت الثلثين، لم ينجح ولكن تسجل له هذه الوقفة كما تسجل لشارل حلو مساعيه في أقناع البابا بعدم الاعتراف بالدولة اليهودية المنبثقة من قرار التقسيم. والوحيد الذي تلقى تهنئة حاييم وايزمن بعد صدور قرار التقسيم، كان المطران مبارك في منفاه. لأن شارل قرم كان قد توفي، وكذلك ألفرد نقّاش، وفقد إدّه ثقة الوكالة به بعد ذلك. وبعد قرار التقسيم، وبعد التجربة الفاشلة مع حلفاء الوكالة في بيروت، لم يعد اهتمام الدولة اليهودية ينصب على إقامة «تحالف الأقليات»، لا مع الموارنة ولا مع الدروز، ولكن السعي تحول لتوثيق العلاقة مع الدول المحيطة، خاصة وأنها نجحت – ولو لفترة وجيزة – مع الملك عبد الله في شرق الأردن، ومع اسماعيل صدقي رئيس وزراء مصر، ولكن اتفاقات تمت بين الدولة اليهودية ودروز فلسطين أقيمت بموجبها علاقات تحالف ما زالت قائمة حتى اليوم.
إميل إدّه تحول للتصريح حول ضرورة «التضامن العربي» بعد قيام الدولة اليهودية، كما البطريرك عريضة، نتيجة للغضب الذي عم العالم العربي. وبعد ذلك لم يعد ساسون متحمسا لدعم المسيحيين رغم أنه أصبح وزيرا للخارجية، ورغم تعيينه لأبشتين أول سفير للدولة العبرية في واشنطن، – وهو عراب الصداقة اليهودية المارونية – وبالرغم من أنه أوفد جدعون رافائيل لإجراء مباحثات مع حزب الكتائب لأقناعه بأن الصدام الإسلامي – المسيحي سيؤذي حلفاء «إسرائيل» في لبنان.
تواصل إميل إدّه والمطران مبارك وحزب الكتائب اللبنانية مع الدولة اليهودية مباشرة بعد إعلانها للحصول على دعمها من أجل العودة إلى السلطة. لم تستجب الدولة اليهودية لطلباتهم لأنها لمست أن معظم المسيحيين في لبنان يؤيدون التعايش الذي نص عليه ميثاق عام 1943، ولا يرضون بغيره بديلا.
ضُمّت منطقة وادي بو جميل ذات الغالبية اليهودية إلى منطقة بيار الجميّل الانتخابية بعد أن تعهّد بيار الجميّل بتمثيلها في المجلس النيابي، ولم تظهر نتائج العلاقات «الخفية» ألا بعد صدام الجيش اللبناني بالمنظمات الفلسطينية ابتداء من العام 1973، والتي توجت بالاجتياح «الإسرائيلي» لبيروت عام 1982، ولهذا الفصل بحث آخر للعلاقة بين الدولة العبرية والكتائب اللبنانية في الفصل الثاني من هذا التحقيق، يأتي في حينه.