اقتراح الـ”كابيتال كونترول”- مجلس النوّاب مستقيل: الأمر لرياض سلامة!

كتبت صحيفة ” الأخبار ” تقول : أعضاء لجنة المال والموازنة النيابية شديدو النباهة. يُجمعون على أن دراسة اقتراح قانون القيود على رأس المال ‏‏(كابيتال كونترول)، “تأتي متأخّرة”. شكراً أصحاب السعادة. في الواقع، يحتاج المرء إلى كثير من الفطنة ليُدرك أن ‏اقتراح قانون طارئ، كتقييد حركة السحوبات والتحويلات في بلاد تعيش واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية ‏والنقدية في التاريخ الحديث، يُبحث متأخراً عن موعده 20 شهراً على الأقل. سنة و8 أشهر، لم يُهدِرها أصحاب السعادة ‏في اللهو. كانوا يجدّون في الدفاع عن امتيازات أصحاب الثروات. أكثر أعضاء اللجنة فطنة هو رئيسها، إبراهيم ‏كنعان. يقول إن اقتراح الكابيتال كونترول يجب أن يكون مقروناً بخطة إصلاحية شاملة. يشاركه مستوى الفطنة نفسه ‏زميلاه ياسين جابر ونقولا نحاس. والثلاثة، كانوا الفرسان الذين أسقطوا الخطة الحكومية الشاملة. اليوم، ينافقون ‏بالقول إنهم يشاركون صندوق النقد الدولي فكرة أن اقتراح تقييد حركة رأس المال يجب أن تأتي من ضمن سلة متكاملة ‏من الإصلاحات والقوانين والإجراءات الإنقاذية، فيما لم تجفّ عن أيديهم دماء الخطّة التي أقرّتها حكومة الرئيس حسان ‏دياب، وتولّوا تدميرها في اللجنة النيابية الفرعية التي كان يرأسها كنعان نفسه. كانت خطّة دياب، على علّاتها، ‏‏”الورقة” الرسمية الوحيدة التي تحدّد الخسائر التي لحقت بالقطاع المالي، وتوزّع هذه الخسائر بصورة أولية. هي ‏الوثيقة الوحيدة التي كشفت جزءاً من الكارثة الكبرى التي ارتكبها حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، حتى بات لبنان ‏الدولة الوحيدة في العالم التي تتجاوز قيمة خسائر مصرفها المركزي مجمل قيمة الناتج المحلي لهذه الدولة. والأهم، أنها ‏الوثيقة الوحيدة التي تتضمّن خطة مقترحات للخروج من الأزمة. ماذا فعل إبراهيم كنعان وياسين جابر وزملاؤهما، ‏بالنيابة عن حركة أمل وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي وأحزاب وتيارات أخرى، سوى تدمير تلك الخطة ‏وترك البلاد تسقط في هاوية الأزمة الأسوأ من نوعها في العالم ربما منذ الحرب العالمية الثانية؟ فعلوا ذلك بدم بارد، ‏وها هم اليوم يتباكون على أن اقتراح القيود ــــ على السحوبات (من المصارف) والتحويلات (إلى الخارج) وتبديل ‏العملات ــــ مطروح أمامهم من دون خطة للخروج من الأزمة‎!‎
أحقر ما ينطقون به اليوم هو التعبير عن إدراكهم بأن اقتراح القانون الذي لم يصدر بعد (ومن غير المستبعد ألّا ‏يبصر النور أبداً) يأتي متأخراً. يقولون ذلك كما لو أن قوة قهرية منعتهم من القيام بواجبهم وإصدار القانون قبل 18 ‏شهراً. حسناً. الاقتراح أتى متأخّراً. من أخّره؟ هم أنفسهم، بأشخاصهم وكتلهم السياسية تولّوا تأخيره إفساحاً في ‏المجال أمام تهريب أموال المحظيّين إلى خارج البلاد لحمايتها على حساب الاقتصاد وباقي السكان‎.

في الأصل، لا بدّ من التذكير بأن وظيفة قانون تقييد حركة رأس المال، هي وظيفة طارئة، تحمل صفة ‏الـ”فوري”. هو قانون تلجأ إليه الدول لحماية ثرواتها الوطنية وعملاتها المحلية واقتصادها، لمنع هروب الأموال ‏في أيام الأزمات. أصدرته عشرات الدول حول العالم. وفي بعض الأحيان، يطبّق بعضها قانون التقييد (كابيتال ‏كونترول)، احترازياً، أي قبل نشوب الأزمات. وعلى ما ذكّرنا الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين، ‏لجأت حكومة الرئيس رشيد كرامي في عهد الرئيس شارل حلو إلى إقرار قانون (مرسوم اشتراعي بعد نيلها ‏صلاحية استثنائية من مجلس النواب) لتقييد سحب الأموال من المصارف، فور اندلاع حرب عام 1967 التي ‏شنّها العدوّ الإسرائيلي في فلسطين وضد مصر وسوريا والأردن. فعلت حكومة “سويسرا الشرق” ذلك، في ‏ساعات، خشية هروب رأس المال من القطاع المصرفي، رغم أن لبنان لم يكن مشاركاً في تلك الحرب‎.‎

وفي الأزمة التي يعيشها لبنان حالياً، كان ينبغي أن يصدر في الأيام التي شهدت أول توقّف للمصارف عن العمل ‏بعد 17 تشرين الأول 2019. فإقفال البنوك أبوابها هو كناية عن “كابيتال كونترول” بلا قانون، يستهدف تحديداً ‏‏”صغار المودعين”. أما أصحاب الودائع الكبيرة، من مصرفيين وسياسيين ومحتكرين وتجار محظيّين، فكانت ‏عملية تهريب أموالهم إلى الخارج جارية على قدم وساق، فيما من يملكون القليل في حساباتهم المصرفية ممنوعون ‏من الحصول على مدخراتهم. تُركت المصارف تطبّق القيود “على ذوقها”، وهو ما لا تزال تقوم به، بقرار من ‏إداراتها، وبتنظيم ورعاية من حاكم مصرف لبنان. مجلس النواب ــــ الشديد الحرص على صلاحياته ويرفض ‏رئيسه منذ اتفاق الطائف منحها استثنائياً للحكومة ــــ قرر أن يمنح كل تلك الصلاحيات لرياض سلامة. لم يملأ ‏الأخير فراغاً تُرك له عمداً وحسب، بل حصل على ما يُشبه الصلاحيات التشريعية الاستثنائية التي جعلته يفرض ‏القيود التي يريد، بعد تمنّعه سابقاً عن الاستجابة لمطالب وقف التحويل إلى الخارج، بذريعة غياب التشريع ‏القانوني. وقبل أيام، أصدر تعميماً ليس سوى “كابيتال كونترول”، يمنح فيه كل مودع 400 دولار نقداً، وما قيمته ‏‏400 دولار بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر منصة “صيرفة‎”.
ما جرى جعل لرأس المال في لبنان استقلالية تفوق تلك التي يحظى بها في أي دولة توصم بالنيوليبرالية ‏الموصوفة بالتوحش. “الدولة”، بكامل وعيها، قالت عبر مجلسها النيابي، إن الأمر لرياض سلامة وحده‎.

فمجلس النواب ارتأى ألّا يفعل شيئاً منذ بدء ظهور نتائج الأزمة، عام 2019. حكومة الرئيس سعد الحريري فرّت ‏من مواجهة الكارثة. أما حكومة دياب، فوضعت خطة سرعان ما تولى البرلمان دفنها. ومنذ ذلك الحين، قررت ‏القوى السياسية الهروب من مسؤوليتها. ليس في ذلك أيّ كسل. فعدم الإتيان بأي فِعل في مواجهة الانهيار إنما هو ‏انحياز لسلطة رأس المال الذي يريد أن يدير الأزمة بنفسه، بما يناسب مصالحه، وبما يضمن له العودة إلى ‏النموذج الذي سقط، مع بعض التعديلات في الشكل لا في المضمون‎.

في حالة اقتراح الكابيتال كونترول ــــ وبعدما جرى تأخيره حتى دخلت البلاد مرحلة اقتصاد الحرب من دون ‏إطلاق نار ــــ فإن عدم إقراره يعني تفويض رياض سلامة إنقاذ المصارف والمحتكرين على حساب جميع الناس. ‏بعد سنة و8 أشهر، أقِرّ في لجنة المال والموازنة. كانت نقاشات النواب تتركّز حول ما سمّوه “تمويل الكابيتال ‏كونترول”! بدا أصحاب السعادة كما لو أنهم يبحثون في تشريع الإنفاق لا تشريع القيود. وبعد لجنة المال ‏والموازنة، أحاله رئيس المجلس نبيه بري على لجنة الإدارة والعدل. وبعد “عُمر طويل” في “الإدارة والعدل”، ‏سيحلّ الاقتراح ضيفاً على طاولة نائب رئيس مجلس النواب، إيلي الفرزلي، بصفته رئيساً لجلسات اللجان ‏المشتركة! ومن المناسب التذكير بأن الفرزلي كان السياسي الوحيد الذي امتلك الشجاعة ليقول علناً: “نعم نحن ‏حزب المصرف”. وكرمى لعيون هذا الحزب، سيتولى الفرزلي “تهذيب” اقتراح القانون، ليُنتج “كابيتال ‏كونترول” لم يشهد التاريخ له مثيلاً. سيستكمل ما بدأه زميله إبراهيم كنعان الذي يتباهى بما “أنجزه”، مخفياً أنه ‏يتضمّن تشريع تحويل الأموال التي تودَع في المصارف نقداً إلى الخارج. ماذا يعني ذلك؟ أصحاب المصارف ‏الذين تحوّل معظمهم من مرابين إلى مضاربين على العملة، سيتمكّنون من جمع الدولارات من السوق وإيداعها في ‏المصارف، ثم تحويلها إلى الخارج، باسم الـ”كابيتال كونترول”.
المحتكرون الذين يتولّون الاستيراد “المدعوم”، ‏والتحكّم بالأسعار والتهريب، سيجمعون أرباحهم بالدولار النقدي، ثم يودعونها في المصارف ويحوّلونها إلى ‏الخارج في ظل الـ”كابيتال كونترول”. ما قامت به لجنة المال، وستستكمله لجنة الإدارة والعدل وبعدها اللجان ‏المشتركة، سيكون، قبل أي شيء آخر، تشريعاً للتهريب‎.
ورغم أن مجلس النواب يمضي في دراسة هذا الاقتراح الطارئ، متأخراً 18 شهراً، ببطء شديد، فلا ضمانة بأن ‏القانون سيبصر النور. البلاد نُهِبت لسنوات زمنَ الازدهار. وها هم الناهبون يُجهزون على ما تبقى فيها، زمنَ ‏الانهيار. أما ما يُسمى “دولة”، فاختارت ــــ بملء إرادتها ــــ تفويض أمرها وأمر الناس إلى رياض سلامة‎.‎

هناء حاج

صحافية لبنانية منذ العام 1985 ولغاية اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى