
التفاوض- الترسيم- التطبيع؛ منتصرون ومستفيدون
ميخائيل عوض
بعيداً عن الملاحظات الجوهرية وتقارير الخبراء ونقاط وخطوط الترسيم التي سجلها الجيش، وجلها تؤكد أن حكومات المنظومة فرطت بالحقوق اللبنانية وأهدت العدو مساحات ومكامن نفط وغاز من بحر لبنان لحماية مصالحها، والاستمرار بنهب الودائع والمدخرات والتآمر على المقاومة ومحاصرتها خاصة حكومتي ميقاتي والسنيورة، ومن رسم مع قبرص من دون تثبيت إحداثيات وخطوط دقيقة تحفظ حقوق لبنان الكاملة.
وبالأخذ بهذه الملاحظات والتأكيد على ضرورة التمسك بكامل الحقوق، كما في الترسيم البري والخط الأزرق، ومحاسبة المفرطين ومعاملتهم كمرتكبي الخيانة الوطنية العظمى.
إلا أن حدث الترسيم والموافقة اللبنانية عليه بلسان الرئيس عون، وبالتقاطع الزمني مع نجاح العراق بانتخاب رئيس وتكليف رئيس وزراء لتشكيل الحكومة بعد سنة من الفراغات، وتلازم المسارات بين لبنان والعراق.
باتت مسألة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و”إسرائيل” قاب تمريرها في المؤسسات ذات الصلة خاصة في “إسرائيل”، أما في لبنان فالمؤسسات إلى فراغات وأزمة دستورية لا يعرف إلا الله مالاتها وما سترسو عليه، وقد يطول الفراغ وتتعمق الأزمة الدستورية ولا يجد الاتفاق من يوقع عليه، فيبقى بلا شرعية دستورية.
فهل استعجال أميركا و”إسرائيل” الانجاز مرتبط بهذه المسألة بحيث تأخذ “إسرائيل” ولا تعطي لغياب من له حق الشرعية للأخذ في لبنان؟ وهل حزب الله يراهن على هذا الأمر لإلزام أميركا والفاعلين لتأمين انتخاب رئيس، وإلا يبقى سيف التهديد والعين والصواريخ على حقل كاريش؟
وهل غابت هذه المسألة عن ذهن المفاوضين اللبنانيين وما أكثرهم؟
بل الأهم هل غابت عن المقاومة وقد أعدت جهازها ومؤسستها التي كلفت بهذا الملف وسمت أحد أصلب قادتها لإدارة الملف نواف الموسوي؟ أم سهلت المقاومة الإعلانات تكتيكياً ولها في الأمر رؤية ذكية؟
في إطلالة السيد حسن نصرالله بدا هادئاً باسماً معتداً، ولم يعلن نصراً بل حذر وشكك وردد كلمة: “إن سارت الأمور وأنجزت… وفي هذه إشارات دالة!
حتى الآن وبافتراض ترجيح احتمال أن تستكمل العملية وتأخذ مساراتها إلى التطبيق فقد سجل مراقبون وخبراء ملاحظات هامة منها:
إن الوسيط الأميركي وحده الضامن… سبق أن حذر السيد قائلاً: إن الأميركي لا يلتزم ضماناته وضرب مجزرة صبرا وشاتيلا وأوسلو ومصيره أمثلة، وأكد أن أميركا لا تحترم وعودها وضماناتها، وأنها تعمل بكليتها لصالح إسرائيل… أين القطبة المخفية؟
أشارت النصوص الإسرائيلية والتصريحات إلى أن “إسرائيل” انتزعت حصة من مخزون حقل قانا ولم تسلم بأنه لبناني 100 في المئة، سيان إن استوفت حصتها من لبنان أو الشركة، والأهم أن الشركة لن تبدأ العمل بحقل قانا إلا بموافقة من “إسرائيل” وأخذ الإذن منها، بحسب ما نشر من الاتفاق.
كما انتزعت “إسرائيل” مساحة أمنية بحرية من لبنان بما يسمى خط الطفافات.
والتزم لبنان، إن تقتصر المشاركة بالاستثمار على الشركات غير الخاضعة للعقوبات الأميركية، أي أن انتزاع القرار السيادي الحر للبنان للاستثمار بثرواته لم يتحقق وما زال الأميركي هو صاحب القرار…
إلى هذه الملاحظات تساق أخرى أكبر وأخطر كتكريس تخلي لبنان عن الخط 29 وعن حقوقه وقبول الإملاءات والترسيم تبعا للأوامر والمصلحة الأميركية، وبما يعطي أميركا مزيداً من النفوذ وعناصر الهيمنة على القرار ومستقبل لبنان والاستثمار النفطي والغازي فيه…
أما ذريعة المفاوض للموافقة وقبول ما هو أقل من الحقوق فهي أسوء من الذنب ويجاهر بأن الظروف المعاشية ومخطط التجويع والحالة المتردية وخطر الإفلاس، هي التي استعجلت الترسيم. وهذا ما تكرره تصريحات الإسرائيليين ويباهون بإنجازهم، ويدعون أن الاتفاق سيحرر لبنان من الحاجة لإيران وسيقلص حضور ومكانة حزب الله، إضافة إلى أن انتزاع “إسرائيل” حصة في قانا يرفد خزينتها، بينما الاتفاق يكبل لبنان ويمنع حزب الله من الإفادة من أموال النفط والغاز….
بكل الأحوال فالتفاوض عبر وسيط مع الإسرائيلي لا يعني تطبيعاً، ولا يؤدي حكماً إلى التطبيع، وهذه تجربة سورية والتفاوض المديد.
والاتفاق على الترسيم ليس بالضرورة تطبيع وليس حكما مقدمة للتطبيع فقد جرت تفاهمات واتفاقات وترسيم للحدود البرية، ولم يجرِ التطبيع وكل ما يقال في هذا الصدد إما تسجيل مواقف أو للتشهير بالمقاومة وهذه لا تغني ولا تزبد .
إلا أن ما تم حتى الان يظهر منتصران، لا ثالث لهما، ولا يعطي “إسرائيل” عناصر قوة أو حتى أوهام بأنها قادرة وفاعلة وغير مرتهبة من اصبع السيد حسن نصرالله، والصحافة الإسرائيلية تعج بالمعطيات والوقائع والإقرار بأن اليد العليا للمقاومة وبأن “إسرائيل” خضعت والمسدس برأسها.
منتصر أول وأساس هو المقاومة، فقد وحدت المنظومة والرؤساء وغالبية المجتمع على الحد الأدنى الممكن وفرضت نفسها قوة توحيد لا خيار تحدٍ أو تفرقه وطنية، وسلحت وصلبت المفاوض ومنعت النزول تحت شروطها الدنيا، وألزمت “إسرائيل” بالتفاوض والمسدس برأسها وعطلت الشروع بضخ الغاز من كاريش تحت تهديد السلاح، وقدمت سلاحها بوظيفة لكل اللبنانيين ولتأمين الحدود والثروات والحق بالاستثمار، والأهم كشفت “إسرائيل على العجز والرهاب من المقاومة ومن الحرب، وألزمتها أن تقبل بما طالب به المفاوض اللبناني، ومن الأمور الأكثر أهمية أكدت حقيقة أن “إسرائيل” ليست إلا كلب صيد أميركي تعمل تحت الأوامر وتنفذ ما يطلب منها، ولا تقوى على رفض الطلبات الأميركية. ونجحت المقاومة إن قدمت نفسها المفاوض المحوري تفاوض ندها أميركا وليس “إسرائيل”. وقد ألزمت أميركا أن تمارس الضغوط على “إسرائيل” وأن تلزمها على عكس ما كان من دور أميركي بالسعي لتمرير المصلحة الإسرائيلية وحدها.
المنتصر الثاني هو أميركا فقد أكدت مونتها على “إسرائيل” ومن أولوياتها هي الملزمة وليس غير، كما أكدت أنها صاحبة باع في لبنان ونفوذها في الدولة والمنظومة التي ألزمتها المقاومة بالحد الأدنى المقبول.
الكلام على أن الجميع رابحين غير ذي أهمية فمن غير المنطقي أن تكون “إسرائيل” رابحة والمقاومة رابحة، فربح أحدهما خسارة محققة للأخرى وما ربحته المقاومة اكبر بكثير من مجرد اثبات دورها ومكانتها ودور سلاحها بل الأهم أنها كشفت “إسرائيل” على العجز والشيخوخة والأزمات وقد يودي التفاوض وإدارته من المقاومة، وما اتفق عليه إلى تفجير تناقضات “إسرائيل” وقد يمنعها ذلك من توقيع وتمرير الاتفاق والشروع بالاستثمار وضخ الغاز وربما إلى الابد.
كما ربحت المقاومة بان اكدت أن يدها وسلاحها هي العليا وتاليا لا تستعاد الحقوق أو بعضها الا بالسلاح والمقاومة وهذه خطوة نوعية محفزة للفلسطينيين لتصعيد كفاحهم المسلح والالتفاف حول المقاومة، فحياة غزة ونفطها وغازها، وتأمينها لن يتحقق إلا بالمقاومة والسلاح والمسيرات ودوام الاستعداد للحرب.
هكذا كانت تجربة غزة بالتحرير صدا لتحرير لبنان 2000 تحت النار وبلا تفاوض وكان صمود غزة الاسطوري في الحروب التي شنت عليها بعد أن كسرت المقاومة اللبنانية شوكة “إسرائيل” وأسقطت قوتها وأفشلت استراتيجياتها بإخضاع الآخرين بالحروب الخاطفة وفي أرضهم، فحولت حرب تموز 2000 إلى هزيمة وإنهاء عناصر القوة وكسرت أذرع “إسرائيل” التي كانت تعتد بها وأعجزتها من أن تفرض إرادتها بالحرب.
أعلن الرئيس موافقة لبنان على الترسيم والمبادرة الأميركية، وبات الطريق سالكا للترسيم في لبنان وأوفت المقاومة للرئيس عون فكرّمته في الوقت الأخير لعهده بإنجاز الترسيم. فيستحق السؤال: ماذا بعد الترسيم هل يمر انتخاب رئيس للجمهورية، فأميركا التي بذلت لتحقيق الترسيم صاحبة مصلحة مع أوروبا للاستقرار في لبنان وبوابته انتخاب رئيس للجمهورية، وإلا يبقى الترسيم حبراً على ورق مهدد بالانتخابات الإسرائيلية وبالفراغ اللبناني .
فهل تتلازم الأزمات والحلول بين لبنان والعراق كدلالة ترجح احتمال إلا يفرغ قصر بعبدا.