40 عاما على رحيل الشاعر محمد المهدي المجذوب…

في 3 مارس/آذار 1982 ودّعت الخرطوم محمد المهدي المجذوب، أحد أهم الشعراء السودانيين.

لم يجد المجذوب حظه من الاحتفاء والدراسة بما يتناسب مع عطائه الشعري، شأن أغلب شعراء بلاده، لكنه نال محبة الشعراء وجمهور القصيدة، وأغلب الظن أن الشعر أحبه كذلك.

ليل الدامر

في شمال العاصمة السودانية وفي مدينة الدامر (200 ميل شمال الخرطوم) ولد الشاعر محمد المهدي المجذوب في عام 1919، في أسرة عريقة -المجاذيب- اشتهرت بالقرآن والشعر، وإلى جدهم الأكبر المجذوب تنسب المدينة (دامر المجذوب).

كان الشاعر حفيا بأجداده، وكلهم مشايخ يعرف السودانيون فضلهم في العلم والأدب وعلى نار القرآن أوقدها جده سمى ديوانه الأول (نار المجاذيب)، تلك النار التي يقول عنها في مقدمة الديوان (سهر من حولها الفرسان والفقهاء وأصحاب الخوارق، يسبحون وينشدون، سماحة بين الناس وأمنا وأريحية، قرونا طوالا).

ولقد أسهمت نشأته تلك في تكوينه المعرفي والنفسي، زاد من ذلك نشأة العلامة الأديب والأكاديمي السوداني عبدالله الطيب (1921 – 2003) في بيتهم بعد وفاة والده فشبا قريبين صديقين شاعرين، وأهدى الشاعر ديوانه الأول لعبدالله الطيب واصفا إياه في المقدمة بـ(قسيم الصبا والأحلام والشباب، الشاعر الفذ الفنان عمي وأخي وسيدي أبي البركات عبدالله بن سيدي الوالد، الشاعر الحافظ المعلم الشيخ الطيب)، ومهديا له الديوان:

خلي وشيخي

وسلواني وعافيتي

ومن يدوم

وود الناس لم يدم

من ليل الدامر الساكن إلى صخب الخرطوم

(ومن ليل الدامر الساكن الهامس بالنجوم) كما يصفه الشاعر كان الانتقال للخرطوم “انتقلت بعد الخلوة القرآنية في الدامر إلى مدارس الحكومة في الخرطوم، وحتى تخرجت من كلية غوردون (جامعة الخرطوم حاليا)، ولم ألقِ بالا بوعي كامل إلى هذه المدارس، ولم أمنع نفسي من شرورها وقشورها”.

لكن الاحتفاء الواضح من الشاعر بأرومته ونشأته صاحبه الكثير من التمرد الذي بدأ باكرا، وهذا ما أشار إليه الدكتور الصديق عمر الصديق -أستاذ الأدب العربي بجامعة الخرطوم ومدير معهد العلامة عبدالله الطيب- في إفادته للجزيرة نت قائلا “كان المجذوب شديد الاعتزاز بأرومته، ولكنه كان يحس بقيود ذلك على روح الفنان”، ويستطرد الدكتور الصديق “أراد المجذوب أن يكون رساما، لكن والده أستاذ الشريعة منعه من ذلك، وجوز له رسم ما لا روح فيه، ولعل ذلك من القيود التي أشار إليها في شعره ومن ذلك قوله:

تركت القيد عند أبي لغيري

وقيدني التجارب والهموم”.

وقد أثر انتقاله للخرطوم في إكساب شعره الكثير، معددا مناهله. ويرى الشاعر والناقد أبو عاقلة إدريس أن المجذوب متمرد بطبعه وأضاف للجزيرة نت “كان المجذوب محبا للدامر ولخلوة القرآن وأصوات المنشدين، ولكنه كان محبا ومتمردا، ولعل روح الفنان سبب ذلك. لم تغره الخرطوم ولم يألفها، فهي عنده مدينة الترك كما سماها:

ما طموح الموظفين إلى الجاه طموحي مع المساكين أبقى

آه من قريتي البريئة لا تعلم كم في مدينة الترك أشقى”.

تفتق الشاعرية والسودانوية

واصل الشاعر مشوار دراسته في كلية غوردون، ثم عمل محاسبا وساعده عمله في التطواف في شتى مدن السودان، وكتب في مقدمة كتابه “نار المجاذيب” قائلا:

“تنقلت في بلادي بحكم وظيفتي من أقصى الشرق إلى أقصى الجنوب إلى أقصى الغرب مع نشأتي في الشمال. وقد سمعت ورأيت وجربت كثيرا، حزنا وسرورا، وكنت أصنع هذا الشعر على أحوال مختلفات”.

ولقد أسهم تنقله في أنحاء السودان في اتقاد السودانوية في شعره، وسودانوية الشعر دعوة أطلقها الشاعر حمزة الملك طنبل لكتابة شعر يعرف من يقرؤه أنه شعر سوداني.

ويرى الناقد أسامة تاج السر أن السودانوية -وإن كان طنبل مطلقها- فإنها لم تتضح في شعره مثل المجذوب، والتي بدت في أخيلته وصوره ولغته، والتي يقول عنها ابنه الراحل الصحفي عوض الكريم المجذوب في مقال منشور له “لعل ما يميز لغة المجذوب مزجه -أحيانا- بين اللغة العربية الفصحى والدارجة إلى درجة استعمال لغة الحديث العادي وزرعها في نسيج قصيدته”، وأكثر ما يكون ذلك في الدارجة ذات الأصل الفصيح وشواهد ذلك في شعره كثيرة.

وهذا ما عضدته إفادة الدكتور أسامة تاج السر أستاذ الأدب والنقد بجامعة الخرطوم للجزيرة نت، فلقد “نقل المجذوب الحياة السودانية للشعر، وهو من أوائل من مزجوا بين الفصيح والعامي، يمثل مشروع السودانوية عنده تقنية من التقنيات الأسلوبية”.

ولقد نبه المجذوب لفضل حمزة ونقده في المقدمة التي كتبها لديوان الشاعر محمد محمد علي (ت: 1390هـ/1970م) (ألحان وأشجان). وقد أشار المجذوب للخصوصية السودانية، وكان من رأيه أن الشعر يجب أن يؤخذ من أعماق البلد.

خصائص شعرية

ليست السودانوية الملمح الأبرز للمجذوب، إذ يعدد النقاد ملامح كثيرة، وتعد الصورة الشعرية من أوضحها عند الدكتور الصديق عمر الصديق، فـ”المجذوب شاعر متفكر، يدرك ذلك المتأمل في قصائده وهو شاعر الصورة بامتياز، فالرسم الذي حرم منه أجاده شعرا”، ويضيف الدكتور الصديق في إفادته للجزيرة نت أن “المجذوب مبدع في التقاط الصور وجريء في رسمها، وهذه

الجرأة لا تنحصر في الصور فقط”.

الجرأة التي أشار لها الدكتور الصديق في الصورة وجسدتها أبيات كثيرة للمجذوب، مثل وصفه للسيجارة:

“وارتضع السجارة وهي أنثى

تأوه في يدي وتستنيم

بقية نجمة قصوى أراها

حيالي والرماد لها غيوم

وأنفضها لأوقظها فتكرى

كما يكرى من التعب السقيم

ولا ألقي بها إلا هباء

أبر بها من القدم النسيم”.

ويشير الناقد أبو عاقلة إلى جرأة المجذوب في منحى آخر “المجذوب جيء في نقده القليل الذي كتب، فهو لا يتورع في مخالفة ما تعورف عليه بين النقاد من تفضيله للناصر قريب الله على التجاني يوسف”.

ومن أهم ملامح شعر المجذوب اهتمامه برجل الشارع البسيط.. بالمساكين. ويرى الدكتور أسامة تاج السر أن المجذوب: “نقل الشعر -بلغة شعرية وتصويرية عالية- من

مركزية الحياة إلى هامشها (اللغوي، والاجتماعي، والسياسي) فكتب عن أصحاب القهاوي، وماسحي الأحذية، والنشالين، وبائعة الفول، وبائعة الكسرة، الشحاذ وغير ذلك”، وهذا ما ذكره المجذوب وعلله في مقدمة (نار المجاذيب): «ولقد أفدت كثيرا من مخالطة الناس خصوصا المساكين، فلديهم صدق أخاذ نفعني وشفاني”.

مذهبية الشعر والسياسة

رغم أن السواد الأعظم من شعر المجذوب من الشعر العمودي مع حيز مقدر للتفعيلة، فإنه كتب النثر أيضا.

يقول المجذوب عن نفسه -في مقدمة (نار المجاذيب)-:

“ليس لي مذهب شعري، فقد حاولت التعبير عن نفسي بصدق، ولم ألتفت إلى مذهب نقدي”، وكان المجذوب قد كتب إحدى أوائل القصائد التفعيلية في مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- إن لم تكن الأولى (ليلة المولد) عام 1957، ويذكر الشاعر الراحل مصطفى سند في عموده (مراجعات أدبية) أن المجذوب قرأها في الندوة الأدبية التي كانت تعقد بأم درمان، فثار عليه بعض أهل العمود، وقال الشاعر عبدالله الشيخ البشير: “لقد أسف الفحل”؛ فرد المجذوب: “إن الفحول لا تسف”.

ويذهب الناقد مجذوب عيدروس في إفادته للجزيرة نت إلى “أن المجذوب كتب قصيدة النثر عام 1950، لكنه لم يكتب الكثير منها”، والمجذوب مبغض للاتباع الأعمى، ومنفتح على الجميع يختار ما يناسبه.

إن لم يكن المجذوب على مذهب شعري فقد كان من أوائل المنتسبين للحزب الجمهوري عام 1945، رفضا لما كان يرشح عن حكم ملكي أو تبعية للخديوية المصرية، وكان المجذوب توّاقا لمناهضة الاستعمار، وقد وجد كثيرا من ذلك في الحزب الجمهوري، وكتب القصائد التي تمدح رئيس الحزب محمود محمد طه، لكنه استقال من الحزب الجمهوري عام 1948 بعد التحول الذي طرأ في الفكر الجمهوري من السياسي إلى الديني، وفي ذلك يقول الناقد والباحث أبوعاقلة إدريس ” بعد التغير الذي طرأ على الجمهوريين والتحول من حزب سياسي إلى فكرة دينية، استقال المجذوب من عضوية الحزب، لكن ظلت العلائق الإنسانية”.

المجذوب الإنسان

كان المجذوب سودانيا بسيطا، يحب الحياة في بساطتها، يحب الناس والحياة والفرح، وكان شديد الاهتمام بالأجيال الأدبية اللاحقة يستمع له ويبشر بهم، وفي ذلك يقول الناقد مجذوب عيدروس للجزيرة نت “كان المجذوب أكثر شعراء جيله اهتماما بالأجيال اللاحقة، وقد بشر بهم في كتابته، وقدم لبعضهم ونوه بكثيرين”، ويعدد عيدروس أسماء لمعت في الشعر السوداني والكتابة من أمثال: عبدالله علي إبراهيم، وعالم عباس، وفضيلي جماع.

40 عاما مضت على رحيل المجذوب وما زال أثره باقيا في الشعر السوداني يقول الدكتور الصديق إن “المجذوب شاعر متفرد، ظل يبحث عن السودانية في الشعر، حتى صار شعره أبهى تجلياتها فاتحا الباب لمن بعده وتأسى به شعراء في مقدمتهم صلاح أحمد إبراهيم ولكل مكانته وطريقته والمجذوب جزل رصين، تجده تراثيا وحداثيا في قصيدة واحدة، فترى صورة ضاربة في الحداثة تمازجها أصداء المتنبي”.

رحل المجذوب مخلفا 9 دواوين، تفوق قصائد بعض دواوينه الـ100 قصيدة، ومخلفا حبا كبيرا وبصمة في الشعر السوداني والعربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى