طهران التي سحرتني بشبابها وأناقتها وتوثبها على رغم الحصار

ميخائيل عوض

لم يكن على جدول أعمالي في هذه الأيام الفارغة والمازومة في لبنان حيث نعلك الساعات والأسابيع بلا عمل أو جدوى ومنفعة…

ففي عصر يوم بارد ممل هاتفني د. يحيى غدار يستمزحني زيارة إلى طهران بمناسبة إحياء سنوية فارس المقاومة- شهيد القدس قاسم سليماني، الدعوة للمشاركة بالمناسبة ولعقد اجتماع للهيئة التنفيذية للتجمع العالمي لدعم خيار المقاومة، هنأته على الفرصة المتاحة للتجمع، وللدور الكبير الذي تراه فيه إيران ولتكريم التجمع وشخص أمينه العام د غدار على ما بذله ونشاطه ومسيرته في دعم المقاومة واشهار ثقافتها وقضيتها، واستأذنته بعض الوقت لأقرر المشاركة من عدمها، فالظروف قاسية والاهتمامات كثيرة في ظروفنا المأزومة إلى حد فقدان ابسط حاجات الحياة وأولوياتها ثم حسمت، فالفرصة متاحة للتعرف على إيران من قرب وبتماس مباشر بعد فرض العقوبات والحصار غير المسبوق عليها، وللتثبت مما يقال ويثار عن ازماتها الكارثية وجوعها وافتقادها لأبسط الحاجات.

المشاركين من لبنان أو عبره عدد محدود على رغم أن اعضاء الهيئة التنفيذية للتجمع توافدوا إلى طهران من أركان الأرض الأربعة ومن القارات السبع  إلا أن الحصار القاسي لإيران  فرض السفر لوفدنا من لبنان على دفعتين وبخطوط طيران مختلفة مع فترات انتظار قاتلة لطولها وثقلها في مطار دبي ومطار الدوحة.

ومذ حسمت المشاركة بالوفد وذهني منشغل بحجم ما سنلقاه من متاعب وفوضى وعدم انتظام للرحلة وجدول اعمالها وللمعاناة المتوقعة تحت ضغط الدعاية التي تستهدف إيران وانماط عيش شعبها وفي زيارات  سابقة كانت الاخيرة في ٢٠١٧ عدت بانطباعات سلبية  لغياب التنظيم وافتقاد واضطراب جدول الاعمال .

وصلنا مطار طهران متعبين ننشد لحظة الراحة وبين همومنا الا نجد أحداً في الانتظار كما جرى معنا سابقاً، والرهاب من تنكيل وتباطؤ اجراءت فحص وختم جوازاتنا أن كان المعني من دولة الاصلاحين كما سبق من المعاناة، ونحتسب أن الحقائب ستضيع في طريقها إلينا.

يستقبلك مطار طهران بخجل وشبه اعتذار فأنواره خافتة والكثير من بواباته واقسامه مطفأة وعدد الطائرات والعاملين محدود بالمقارنة مع عجقة مطار دبي على رغم الفارق الفلكي بين إيران ودبي، فتقع اولى المفاجأت بيسر وسهولة الاجراءات وابتسامات العاملين وحيويتهم وكم الترحيب بالزائرين وباللغة العربية، وما أن اطلينا على الخارج حتى وجدنا فتيان باسمين يصافحوننا بحراره ويرحبون بنا ويجمعون الحقائب ويسوقنها إلى الحافلة الحديثة الطراز والمعدة بإتقان لنقلنا إلى الفندق وهناك وحالما وصلنا دعانا المضيفون الانيقون والحيويون جدا إلى تناول القهوة والشاي والعصائر الطازجة والى طاولة الطعام مع عبارات الاعتذار والتبرير وطلب المعذرة عن معاناة السفر الاضطرارية بنتيجة الحصار الجائر. .

المنطقي أن تزول الغمة وان تنسى معناة الرحلة المرهقة ونبدأ برحلة اكتشاف إيران المولودة من رحم الحصار. وتتزاحم الاسئلة في ذهنك والدهشة تجتاحك؛  فالفندق خمسة نجوم معززة، والحياة العصرية واضحة وانتشار البيانو في كل الردهات وحيث جلست فالأرائك مريحة تدلف اليك نادلة مبتسمه تلقي السلام وتسأل عن رغبتك من الطلبات واللافت حجم التنوع في المشاريب الباردة والساخنة والحلويات بأصنافها الكثيرة وكذا تجد الكرم ووفرة وتنوع الوجبات في بوفيه الترويقة والغداء والعشاء المزدحمة بعشرات الاصناف مما لذ وطاب،  فتلتفت وتسأل صديقك الذي كان في باريس منذ ايام هل طهران هذه محاصرة وجائعة وينقصها الكثير؟؟؟ يجيبك بحزم انها افضل من باريس واكثر شبعا واناقة والاهم انها مقتنعة بنفسها وتعرف طريقها وتصيغ مستقبلها على هواها وبما يناسبها، والمقارنة بباريس والعواصم الاوروبية والعالمية  لم يكن حافزها الفندق والطعام والفرش والخدمة فحسب بل نظافة الشوارع وخداماتها والارصفة التي استدرجتنا يوميا لساعتين من المشي والتأمل بمعالم الابنية وبحركة الناس واناقتهم فالكل مبتسم ويلفتك هندسة واجهات المحلات والمعروض فيها من ثياب واواني ومفروشات واغذية وادوية وخلافها وجلها من ماركات عالمية أو توازيها جودة وتصميم  بلمسة فارسية رائعة في التحف المطعمة بالفيروز والكهرمان ونوادر المعادن التي تزخر بها إيران وتجيد صقلها  وتصنيعها ايد ماهرة وعقول مبدعة وصابرة بتقاليد مكتسبة من مهنة صناعة السجاد العجمي، ويلفتك تنوع محال صناعة وبيع المأكولات الجاهزة ونظافتها واناقة معروضاتها فترى صورة بيروت والداوون تاون ايام عزها وجمهرة الفتيات والفتيان في مقاهي الرصيف ويطول السهر حتى ساعات الفجر وانت تسترق السمع فستسمع اغاني وموسيقا راقصة بأصوات مطربين عرب  وفرس وأوربيين وأميركاان تختلط بقهقهات الفتيات والفتيان يمارسون حياتهم الطبيعية وتشع من تصرفاتهم  الفرحة والامل بالمستقبل والاطمئنان للغد، ولن يشغلك البحث كثيرا على حال المرأة في إيران فستجدها شريكا محوريا في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وقد اعطتها الثورة والدستور حقوقها ومكانتها وعززت من احترامها فهي شريك في مؤسسة العائلة  فالزواج لا يعقد الا بموافقتها وكذا الطلاق، وان قرر الزوج تعدد الزوجات فهذا مشروط بموافقتها امام القاضي وعلنا، ولها في الارث وحقوقها محفوظة بما حصلت من جهدها وعملها ولا تتفاجأ أن صادفتها تقود سيارة الاجرة أو معدة ثقيلة وحافلة، وجمالهن موصوف وتظهره الاناقة والاهتمام فحجم حضور المرأة في الحياة العامة وما لها من حقوق وحريات تجعلك تفترض أن المجتمع الإيراني مؤنث، فلا وجود للشادور الا ما ندر وفي البيئات المتدينة وكلباس تقليدي في مجتمعاتها والحجاب  اقرب للزينة منه للتحجب وفي الشارع أو المقهى والحديقة والمطار ستجد فتات تحتضن شابا ويتهامسان بدفء وحنان كأمر معاش .

نظافة طهران وهندستها المعمارية واناقة ابنيتها واتساع شوارعها والارصفة وتخديمها المتقن بما في ذلك الشوارع الخلفية والحواري وتمازج اجيالها وهندستها توثق لك انها عريقة عتيقة مخدمه بإتقان وتزداد شبابا لتناطح السماء بحثا عن مكانتها تحت الشمس ولم يغريها أو يقعدها عن تشييد الابنية والحدائق العصرية انها تربعت في التصنيفات العالمية كأجمل وانظف رابع مدينة في العالم يزينها برجها ومتحفها العسكري وشوامخ مجسمات صواريخها الحاملة للأقمار الصناعية والدقيقة الاصابة للدفاع عن إيران وحلفائها، وتنتشر مشافيها كالجامعات وتصادفك اينما ذهبت لتذكرك بالفتوحات العلمية والطبية التي حققها علماء إيران وخبراءها وتفوقهم في علوم الفيزياء والكيمياء والطب والهندسيات والابحاث والاكثر اهمية ودلالة أن جل علمائها والنوويين منهم تحت سن السابعة والعشرين وتلك ميزة ودلالة على ما ستكونه بعد سنوات .

فان نظرت إلى الوجوه تنتابك موجة امل وتجتاحك عاصفة الثقة فكلها تشي بالثقة والفرح وان تأملت قامات الشباب والشابات تجزم بانك امام شعب شبعان” لا يعاني من الجوع وفقدان الاساسيات” وله القدرة على اقتناء وارتداء احدث الموديلات وارقى انواع المصنوعات وفي الايدي هواتف من ماركات عالمية وطرازات حديثة كهواتف الاي فون والاي باد ولاب توبات الماك ومشتقاتها..

بيسر وسهولة وبسرعات تنساب  الانترنت وتشع الانوار التي تضيء ليالي طهران والشوارع والحواري فتخالها تعرض عليك باقات من النور والانترنت لتأخذها معك إلى بيروت ودمشق لتبديد العتمة وانقطاعات الشبكات والكهرباء.

(فطهران تقوم على مساحة تزيد عن ال١١ الف كيلومتر مربع اي بمساحة لبنان، وعدد روادها نهارا يزيد عن ٢٠ مليون وسكانها الدائمون يربو عن العشرة ملابين اي ما يقارب ضعفي عدد سكان لبنان).

وبعد أيام من الزيارة تحفزك الافكار والتساؤلات المزدحمة لتسأل آخرين، ماذا يلفتك بهذه الزيارة فتجمع الاجابات أنها طهران متألقة وشابة ومطمئنه ليومها وغدها لا ينقصها شيء لتتربع على عرش العواصم جمالا واناقة ونظافة وهمة وتوقد..

وان تحمل السؤال إلى مضيفيك والمسؤولين بمراتبهم المختلفة عن سر  تألق وشباب طهران وما الجديد الذي غير فيها ويقدمها على هذا النحو العصري والشبابي يبتسم ويلتفت يميناً ويساراً فلا يعرف السر لأنه يعيشها يوميا ولم يلحظ ما لاحظته انت الزائر بعد سنوات انقطاع ويعدك بان يدقق ويبحث.

وتفيض الاسئلة عندما تغادر طهران إلى كرمان الموصوفة بعاصمة المقاومة الاسلامية لعدد شهدائها ولدورها في الثورة والحرس والحروب ومحافظة كرمان بمساحة ١٨١ الف كيلو متر مربع … تخيل؛ تساوي مساحة سورية و١٨ مرة مساحة لبنان ومصنفة على لائحة التراث العالمي وبرغم أن جبالها الشاهقة جرداء وجغرافيتها ومناخها صحراوي تفتقر إلى الغطاء النباتي الا انها تتربع على عرش تاريخ إيران وفارسيتها والمحافظة الاكثر ثراء وانتاجا للمعادن الثمينة والفيروز والرخام والحديد وما أن تهبط في مطارها الذي يبعد عن طهران ٨٠٠ كيلو متر حتى تتلمس طيب الحياة والحيوية والنشاط العارم لأهلها وعندما تجوب شوارعها العريضة وارصفتها وتنظر إلى هندستها وابنيتها فستراها توأم طهران وكل ما اجتمع وتحقق للعاصمة يتوفر في المدن والحواضر الإيرانية، ثم تسوقك الرحلة إلى مقبرة شهداء كرمان المتسعة والمحتضنة من شواهق جبالها فتجد نفسك في غابة من الاشجار كواحة في وسط الصحراء بشوارع متسقة وساحات واسعة مخدمه ومصانة فقد قررت الثورة وقيادتها تكريم الشهداء وتخديم قبورهم كما لو كانوا احياء بل اكثر وفي عرفها هذا اقل الوفاء، وفي الطريق المزدحم بالناس إلى قبر فارس المقاومة وشهيد القدس سليماني يستقبلك قادة الحرس والجيش مصفوفين على الجانبين بابتسامة وترحيب وافتخار بالشهداء وتكريم فائض لضيوفهم  وتعزف فرقة الشرف نشيدها والقبضات على الصدور وبين الاضرحة تمر في ساحة الاحتفال فتجد ضريح سليماني محشورا بينهم وشواهد قبورهم متساوية تماما يميز قبر سليماني غلاف زجاجي ليضيء عبارة؛ الجندي في جيش الولاية استشهد بتاريخ.. فقد اوصى بإلحاح أن يدفن بجوار الشهداء وان ينعى بصفته جنديا لا جنرالا فكل شهيد يرتقي إلى رتبة قائد باستشهاده بحسب عرفه ونهجه.

وبعد أن تلقي التحية وتقرأ الفاتحة لروحه ولرفاقه يصحبك المرافقون المهذبون  إلى المنصة وساحة الاحتفال وقد خصص لكل ضيف كرسي تربع بين قبور الشهداء ولإتمام الاحتفال يعتلي المنبر قارئ يتلو آيات قرأنية بصوت رائع وبأداء مذهل ثم فرقة الفتيان متدرجة الاعمار تنشد بأبداع وبأصوات رائعة الاداء والنغم فيتلوا امين عام التجمع العالمي لدعم خيار المقاومة كلمته التي شدت انتباه الجميع بعباراتها المسبوكة ولغتها المحكمة ومضمونها العلمي والمنهجي فقد اعدت المنصة والاحتفال خصيصا للتجمع العالمي ووفده ولكلمة امينه العام.  ويصحبك المرافقون إلى جامعة ازادي للمشاركة بمؤتمر علمي عن مدرسة القائد سليماني وفي الساحة وصولا إلى القاعة الفسيحة والمجهزة بأحدث التجهيزات تستعرض نتاجات طلاب الجامعة وابدعاتهم وفتوحاتهم العلمية والصناعية والزراعية والانشائية وكما في منصة الاحتفال وفي المقبرة كذلك في قاعة المؤتمر الاتقان والتنظيم  والاستثمار بالوقت يلفتك ويحاكي الاجابة على اسئلتك.

من المؤتمر إلى الغداء المتنوع الاصناف والوجبات والحلوى والمشاريب وبعدها تقودك القافلة إلى منزل الشهيد سليماني الذي حوله في حياته وبإرادته ورغبته وبإشرافه الشخصي حيث توفر له الوقت إلى مسجد وحسينية لأحياء المناسبات الدينية وقد اعتاد استقبال الناس في الصالة وهو واقف لساعات وقد احتل تمثال له ذات المكان بابتسامته الواثقة والحكيمة، وتسير بك القافلة مرة ثانية إلى مقبرة الشهداء وقد اسدل الليل ستائره وعندما نصل تفاجئنا حشود بعشرات الالف تتقاطر من عدة شوارع إلى المقبرة لإقامة مراسم العزاء الحسيني وعلى جانبي الطريق منصات ضيافة للشاي والقهوة والمشاريب والأطعمة فللشهيد القائد سليماني مكانة وقيمة تقارب ما للحسين والائمة من صفات، ومراسم المسيرات الحسينية في كرمان تدوم لخمسة عشر يوما ما ينبئك بان المقبرة ستكون يوما مرقدا تامه الملايين لتحي المناسبة ولتعظيم الشهداء والقادة.

يوم كرمان غنيا وثريا بحصاده وتعطر برفقة اعزاء  تقدمتهم السيدة الانيقة الاكاديمية والشابة الأستاذة مروة عثمان بهيبتها ومحياها وتوثبها وحضورها الذهني المتقد.

ويسوقك التفكير إلى  المزيد من الاسئلة وللمزيد من التثبت من حقيقة أن إيران تحت الحصار اكثر اكتفاء واعرض ابتسامة واعمق تصميما على التمايز والبناء، وكشأن طهران كرمان والمدن والحواضر الإيرانية…..

في رحاب مصلى طهران حيث امتدت المساحات المبنية والقبب المزركشة والساحات الواسعة وتتسع حدود المصلى لبيروت الادارية وربما ضعفها يلفتك حشد المعدات الثقيلة والرافعات لإتمام الاقسام التي مازالت قيد الانشاء والاكساء وتجيبك الذاكرة على سؤالك بالقول:  أن بلدا محاصرا وجائعا لا يشيد الابنية وينفق عليها ملايين الدولارات ففخامة الابنية بما فيها السكنية والخاصة دلالة على الثروة وتوفر الاموال وتعاظم الاشغال، وبينما بدا الرئيس رئيسي كلمته في الاحتفال التأبيني لسليماني يجلس بجانبك في الصفوف الخلفية لمنصة الضيوف رجل معتدل القامة متسق الجسد يرافقه حارسان ليستمع بإصغاء ودون أن يلفت النظر، فيقترب رفيقي في السفر د حسن جوني ويسر بأذني أن الجالس قربك هو وزير خارجية إيران الذي يشغل العالم بحنكته وادارته للتفاوض النووي فلا تستغرب هذه الالفة والتواضع عند المسؤولين وانت استعرضت قبل دقائق قادة الجيش والحرس الثوري الكبار مصطفين كالجنود والكشافة يرحبون بالضيوف ويرافقونهم إلى مقاعدهم بكل تواضع وخشوع، وفي تصرفاتهم بعض سر طهران وشبابها الدائم لا تشيخ.

في المجمع الذي استضاف اجتماع الهيئة التنفيذية للتجمع ليوم كامل بعض سر التناسق والجدية والحرص على تكريم الشهداء فقد اختير ذات المبنى الذي فجر بقادة حزب الجمهورية بعد انتصار الثورة الاسلامية واودى بحياة العشرات من قادة وكوادر الثورة وقد تم ترميمه كقلعة ومزار وجامعة ومسجد وفي وسطه قبه لمقبرة جماعية للشهداء القادة ويبدو انها ليست مصادفة أن تاريخ استشهادهم على بعد ثلاثة ايام من تاريخ استشهاد سليماني ورفاقه فقد اختار المضيفون المكان والزمان لجلسات الهيئة التنفيذية بفطنه وذكاء.

وفي اليوم السابع للزيارة حيث كان الوعد بان يكون يوم الراحة والتسوق والتعرف عن قرب على الإيرانيين المواطنين العادين في الاسواق  يفاجئك المنظمون على طاولة الافطار بان تجهزوا سريعا فلدينا موعد مع مستشار القائد وزير الخارجية الاسبق ولايتي صاحب الشهرة والذهن المتقد وتقودك القافلة إلى شارع فلسطين حيث مجمع ابنية وسكن القائد ومكاتبه المحروسة جيدا والنظيفة كثيرا والاشجار باسقة تضلل الأمكنة، وفي حضرة المستشار تجري الحوارات المفتوحة بلا ضوابط لأربع ساعات متصلة، تنهل من خبرته ومعارفه وعلومه لتكتشف انه طبيب ومبدع ومدير اهم المشافي الجامعية وقد اعد وناقش اطروحات لتلاميذه على قدم كبير من العلمية والاهمية في مختلف الامراض، اشارة دالة على ما بلغته إيران في مجالات الطب وصناعة الادوية والعلاجات الحديثة وعلوم النانو وزرع الاعضاء ومعالجة الامراض المستعصية واستخدام النووي في المجالات الطبية والسلمية ومن مكتب ولايتي رحلة قصيرة إلى مكتب امين فرع إيران للتجمع العالمي لدعم خيار المقاومة  ونائب الامين العام الدكتور الشيخ باراتي للاطلاع على المكتب والتعرف إلى فريق العمل الذي نظم وقاد الاحتفالات في الذكرى الثانية لاستشهاد سليماني ولن تستغرب أن الشباب والرجال المنظمون والمرافقون هم من قادة إيران ويحتلون مواقع حساسة وهامة وقد تطوعوا لخدمة الضيوف وتنظيم زياراتهم والاهتمام بشؤونهم التفصيلية  وتلبية حاجاتهم وطلباتهم، وقبل أن تكتمل الضيافات الكريمة من كل الاصناف والاهم الحلويات التقليدية الإيرانية يطلب منك الدكتور باراتي بتهذيب أن تخلع ساعتك وتفرغ جيوبك من اي معدن وتسلم هاتفك للمرافقين فنحن على موعد للقاء شخصية هامة والاجراءات الامنية مشدده.

تمخر الحافلات شوارع وحارات وازقة طهران وبعد حين تتسلق الجبل الشاهق لتعبر اول حاجز امني هو الوحيد الذي صادفنا في ايامنا السبعة في إيران، يسألني رفيقي في الرحلة د حسن جوني من تحسب سنلتقي  قلت الارجح انا ذاهبون إلى احدى مدن الصواريخ في باطن الجبل ولحظة وصولنا وحيث انتصبت قامة شاهقة امام المبنى في استقبالنا نظرت إلى حسن وقلت له ها نحن اما جبل الجبال الحاضنات لمدن الصواريخ يستقبلنا على مدخل المبنى بلطف وحميمية وابتسامة اسرة على رغم أن العالم سيهتز أن اهتزت اصبعه أو تلفظت شفتيه ببضع كلمات، وبقينا في حضرته ساعات طويلة يستمع إلى مداخلاتنا ويجيب على الاسئلة ويزيد بطلب الضيافة بكرم حاتمي واكثر وفي الوداع يقف ليتصور مع كل فرد منا ويقبله ويشد على يده ويسلمه هدية قيمة جدا من صناعات الفيروز والنحاس الإيراني ويصحبنا إلى المدخل للوداع ويتسمر لمصافحتنا فردا فردا حتى غادرت الحافلة وليل طهران ساعتها مثلج وتكتسي ثوبها الابيض كعروس تحتفل بذكرى شهدائها القادة، فنهرع إلى الفندق لتناول الطعام والى الغرف لإعداد الحقائب فموعد الطائرة اقترب وللوصل إلى المطار نحتاج لساعة ونيف وبسرعة ١٢٠كلمتر وما فوق حالما تسمح عجقة شوارع طهران المكتظة بالسيارات والحافلات الخاصة وكلها موديلات حديثة وانيقة لا تنقصها الصيانة كالطرقات الطويلة والفسيحة والجسور المعلقة والمتعددة المسارات.

وبينما كنا نمضي ساعتين ليلا في شوارع طهران مشيا على الاقدام تريضا وتمتعا بمناخ طهران ولسعة بردها الناعمة  كان رفيقي د حسن جونية الخبير والاستاذ في القانون الدولي وصاحب المكانة والباع الطويلة في اختصاصه الثائر والمناضل الاممي خريج وشبه مواطن باريسي ويعرف بدقة تفاصيل وتواريخ العواصم العالمية والاوروبية التي زارها واقام بها لأشغاله والمؤتمرات العالمية التضامنية وبروحه المرحة وذاكرته الفطنة وفوضاه وحشريته وفضوله الطافح كان يشغلني بالتوقف امام المباني المشيدة وقيد الانشاء  على الطرازات الاوروبية وبهندسة فارسية ويقارنها بأبنية العواصم الاوروبية ويميل لمنح طهران الشهادة بما في ذلك تنظيم شوارعها وحدائقها وصفوف الاشجار الباسقة على جانبي الاسترادات والطرقات ترويها الاقنية المفتوحة التي تتدفق فيها مياه الثلج الدارجة من شمال طهران وجبالها المعتمرة قبعتها البيضاء، وقد اكثر الكلام عن طهران وعمرانها وهندستها والابتسامة المرسومة على وجوه اهلها وعابري طرقاتها  ولفطنته ومرح روحه لم يترك ” شلعة” زمرة من الفتيات الجميلات المحتشدات في الشارع سعيا لمكان في احد مقاهي الارصفة العامرة في طهران الا وتحرش بهن وغازلهن وقهقه معهن، ومن النوادر الدالة التي زادت بمعرفتنا بطهران وسرها العجيب طرح السؤال على المارة حيث استفردنا بأحد:  كم سعر الدولار اليوم  بالمقارنة مع الريال والتومان لتجتمع الاجابة وتكشف عن حقيقة لم نكن تنبهنا لها فكل واحد منهم يقلب شفته ويصفن لثوان ويرد مبتسما ومستغربا سؤالنا لا اعرف وما حاجتي لأتابع سعر الدولار الذي لا احتاجه ولا احترمه ولا يعنيني فانا اقبض بالتومان  واشتري حاجاتي به وادفع فواتيري واسعار الخدمات والسلع وامورنا مؤمنه ولا نحتاج لاقتناء الدولار والعملات الاجنبية فمن احتاجها لسبب يذهب إلى  الدولة والمصرف المركزي فيحصل عليها بسعر مدعوم وعليه استدرجتنا الذاكرة إلى لبنان ووجود ١٢ سعر للدولار ولبنان يفاخر بقطاعه المصرفي ونموذجه للاقتصاد الحر والليبرالي والبلاد تفتقد الكهرباء والماء والشبكات وتيار المولدات يسعر بالدولار.. ونسال انفسنا هل اذهلتنا طهران لأنها مذهلة وتبطن اسرارها ام لأننا جئتنا من لبنان وقد نهب وافقر وجرى تعتيمه وتأزيم الحياة فيه ونفاذ واستحالة تامين ابسط الحاجات…

ومما يلفتك كثيرا أن نسبة المدخنين لا تجاوز ال١٠% على رغم أن إيران تنتج اجود انواع التبغ ولا تحرم التدخين أو تحرض ضده، والاهم والاعمق دلالة أن نسبة الالتزام بإجراءات الكورونا ١٠٠% فلن تصادف احدا لا يضع الكمامة فقد اصبت انا المدخن بانتكاسة فقد حملت كروزين من الدخان ولم انفق منها سوى علبة أو علبتين خلال سبعة ايام فعدوا طهران تصيبك ومخالفتها تحرجك … وفي كل الاحوال فتراجع المدخنين والالتزام الصارم بالإجراءات تدلل على حجم الثقة بالدولة ونفوذها واحترامها وبدرجة الوعي والانتظام المجتمعي وهذه ايضا واقعات ترد على حملات التضليل والافتراء التي تستهدف إيران.

فطهران المحاصرة تشع شبابا وتثق بنفسها وتؤمن بشعبها وتتوفر في محلاتها والسوبر ماركت  والصيدليات والاسواق  كل الحاجات ومولاتها الصغير منها بحجم نصف بيروت الادارية تزدحم فيها المواد والسلع من كل الانواع والاصناف والماركات كما شوارعها تعج بالسيارات والحافلات الخاصة ومخازنها مملؤة بالوقود ….

عدنا إلى بيروت وظلمتها وخراب عمرانها وشوارعها وارصفتها وفقدان ابسط الحاجات وكبر السؤال في اذهاننا ما سر طهران تزداد شبابا وعمرانا وتألقا وهي محاصرة بينما تفتقر بيروت لأبسط حاجات الحياة لابتلائها بمنظومة فاسدة مافياوية لصوصية سرقت ماضيها وحاضرها ونهبت مستقبل ابنائها…

ويحدثك البعض ويرهبك من أن تتحول بيروت إلى شبيه طهران…!! فتقول في قرارة نفسك ( اللي بيعرف بيعرف واللي ما بيعرف بقول كف عدس.)..

فكفوا عن الكذب والترهيب والتهويل بالتضليل ليت بيروت تصير حارة في طهران العازمة على صناعة مستقبلها والاقليم على قيم الشهداء وتضحياتهم وبتهذيب وبساطة وكرم شعبها وقادتها الاجلاء..

وان صارت من حواري طهران  فستنعم بكهرباء ٢٤/٢٤ وبإنترنت عريض وسريع وبتنظيم هندسي ومدني متقن للسير وبالأرصفة والشوارع والحدائق الغناء  والحافلات والنقل السريع وتمتلئ المحلات والمخازن والمولات بما لذ وطاب وبأسعار يستطيعها اللبناني الذي افقر ونهبت امواله ومدخراته.. .. ويصير لكل طالب مقعد دراسي ولكل مريض سرير ولكل محتاج دواء رخيص واستشفاء مجاني….

حدثنا مضيفينا ومن التقيناهم من قادة في السياسة والعسكر والاستراتيجيات وفي الملف النووي والمفاوضات والحوارات الجارية مع السعودية والامارات  والثأر لسليماني وموعد تحرير القدس والصلاة خلف قادة المحور في كنيسة المهد والاقصى، وكانوا مقتنعين إلى ابعد الحدود واستعرضوا الواقعات والاحداث المعاشة والدالة على أن زمن أميركاا وإسرائيل وحلفهم اصبح في حالة الغروب المتسارع وان إيران جادة في العمل مع دول وامم الاقليم لإنتاج اقليمية حضارية عصرية تدار فيها العلاقات على المنافع والمشتركات والقيم الجامعة بعيدا عن إملاءات أميركاا والناتو وابتلاءات الاستعمار والتقسيمات والحروب والفوضى.

فسر شباب وتالق  طهران وثقتها بنفسها واعتدادها بماضيها وحاضرها وسعيها إلى المستقبل مشتق من فكر  ووعي وحكمة وتصميم قادتها الاحياء ومن مدرسة قادتها الشهداء واثقة من نفسها وقدراتها ساعية إلى امتلاك مستقبلها بلا تردد أو هوادة.

بالحق اشهد أن اهم دوافعي لزيارة طهران كانت رغبتي الجامحة بالتعرف على حال إيران تحت الحصار وتلمس اثر انحسار الحقبة الاسلامية والاسلام هو الحل، وعلى وقع انكشاف وافلاس ظاهرة الاخوان المسلمين ومخلفاتهم من السلفية المسلحة وفصائلها وانقلاب السعودية على وهابيتها وترويجها للإسلام الأميركاي والليبرالي، والمنطقي أن الثورة الاسلامية الإيرانية بشعاراتها السيادية وانجازاتها الاجتماعية وتبنيها قضية فلسطين والتزامها تحرير القدس قد اسهمت نوعيا بتامين شروط هيمنة الحقبة الاسلامية وتصعيد ظواهرها ومنتجاتها وبانحسار الاسلام السياسي والمسلح السني المنطقي ايضا  أن تفقد إيران ضدها النوعي، ويضاف أن إيران قد شهدت في السنوات المنصرمة  صراعات علنية بين التيار الاصلاحي المتأمرك والمتأورب والكتلة الصلبة في الثورة الاسلامية والمؤسسة الدينية والدولة والمجتمع الممثلة بالحرس والقائد، الامر الذي قد يتسبب بزيادة التشققات والتعطيل المتبادل وتراجع دور الدولة والمؤسسات لانشغالها بالصراعات والتخندق المتضاد، ما يوفر ظروفا مؤاتيه للمؤامرات والثورات الملونة ولفوضى الربيع العربي الذي تراهن وتعمل عليه أميركاا وحلفائها لتفكيك واسقاط إيران.

وما خلصت اليه من تحليل ونتائج وبناء على الواقعات المعاشة والملموسة فإيران التي استثمرت بالحصار وعززت الاقتصاد المقاوم والاعتماد على الذات وتامين حاجاتها وقد حسمت اشرعتها شرقا وتعاقدت مع اوراسيا واصبحت كامل العضوية في منظمة شنغهاي وتوحدت دولتها وكتلتها الحاكمة وحسمت الصراعات الداخلية بانتخاب رئيسي رئيسا لها فعزمت على انتزاع دورها ومكانتها واكملت عدتها للمواجهة وللحروب أن فرضت عليها تجدد شبابها وتتوحد اردتها لتعزيز خياراتها وصناعة نموذجها ومستقبلها على قيمها وخيارتها هي لتتمكن وتسود وربما يكون هذا بعض جواب على سؤالي الابتدائي عن سر طهران وسبب تألقها وتجديد شبابها.

و ما لمسته وشاهدته، وما خرجت به من انطباعات اكدت لي أن إيران وثورتها الاسلامية والتزاماتها مختلفة جوهريا عن نماذج الاسلام السياسي التي عاصرت تجربتها، وليست محكومة بنفس اليات الافول والانهيار التي تعانيها حركة الاخوان المسلمين والوهابية والسلفية والاسلام السني المسلح وتضرب اخر دولها “تركيا” الازمة الانهيارية وتعصف بها.

فتحية حب واحترام لطهران ولإيران وكل الشكر لمن دعانا واهتم ونظم واجاد التكريم والاحتضان.

وقد توفرت لي فرصة اعتلاء منبر جامعة ازاد في المؤتمر العلمي لمدرسة نموذج ونهج قاسم سليماني وقلت العبارة التالية:

لروح الشهيد القائد الجهادي والاممي قاسم سليماني…

روحك نجمة الصبح …. دمك درب النجوم والثريا …

تنير طريقنا للقدس قبلة جهادك ومبتغى تضحيات امتنا..

وعدنا … وعهدنا … أن نقرا الفاتحة لروحك ولرفاقك في كنيسة المهد حيث ولد السيد المسيح وقدسنا يا فارس المقاومة وشهيد القدس عاصمة ابدية لفلسطين الحرة السيدة المطهرة من رجس الصهاينة وربهم الشيطان الاكبر أميركاا.

فاستشهادك بشارة النصر  الاتي…

على نهجك  …. سيبقى

شعارنا إلى الأمام ..سننتصر..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى