اذهب إلى حيث لا يوجد طريق… واترك أثرا

أجواء برس- سنا الشامي

إذا تقرَر جمعُ كل ما قدمته البشرية منذ نشوئها وحتى اليوم، وحُلل وركب لنتج عنه في الجزئيات أثر سمي اصطلاحا “أثر الفراشة”.
لم يكن يدري بهذا الأثر الإنسان الجامع الأول، ولذلك يجادل علم النفس التطوري المتنامي أن العديد من خصائصنا الاجتماعية والنفسية الحالية تشكلت من خلال عصر ما قبل الزراعة الطويل، ويبين علماء هذا الحقل المعرفي أن أدمغتنا وعقولنا في الوقت الحاضر متكيفة لحياة الصيد والجمع التي كانت سائدة آنذاك، فعاداتنا الغذائية وصراعاتنا تشكل جميعها النتيجة لتفاعل عقول الصيادين الجامعين بداخلنا مع بيئتنا الحالية ما بعد الثورة الصناعية بمدنها الضخمة وطائراتها وهواتفها وحواسيبها، وهذا أثر لا يزال يسكننا في لا وعينا.

هذا الأثر الذي تغلغل في جيناتنا عمره أكثر من 30000 سنة ولا يزال راهناً إلى حد اللحظة إن عرفنا أم لم نعرف، وهو ككل أثر كوّن حياة البشرية لم يستطع أحد لمسه باليد المجردة معرفةً لكنه موجود، كما أن البشرية لم تشهد هذا بالفعل وكأنه على مسرح الحياة مباشرة بل وجد من خلال فعل ربما أدخل القائم به في تحدٍ كان لا بد منه للانتصار في الحياة والاستمتاع بها.

 

على هذا المبدأ يسير معظم الناجحين في الحياة، الذين لا يتبعون تلك الطرق المعبدة التي سار عليها غيرهم وأصبحت مستهلكة بل يذهبون إلى حيث لا يوجد طريق ويعملون على شقِ طرق جديدة ليتركوا عليها أثراً.

“جيف بيزوز” مثلا مالك شركة “أمازون” العملاقة شق لنفسه طريقاً عبر الانترنت الذي شكل في وقت بدايته تخوفاً بالعمل من خلاله، فأنشأ مؤسسته التجارية في مكان أشبه بالوهم، لكنه اليوم من أغنى أغنياء العالم، كما أن شركته “أمازون” تعتبر أكبر مخدم أساسي للبشر عبر العالم أجمع، فلو ذهب “بيزوز” ودرس والتحق بشركة ما كموظف -كما يفعل العوام- لما حصل على ما حصل عليه، ولم تحصل البشرية على ما قدمه لها بشقيه الإيجابي والسلبي ربما.

و”أمازون” اليوم تشبه فعل الإنسان الجامع الأول الذي فتح طرقاً جديدة للحياة ولا تزال آثارها رابضة إلى اللحظة، فأمازون بمفهومها السلوكي الواسع ستستمر إلى ما بعد عشرات السنوات من وجودنا، لأنها خلقت تحولاً واضحاً وأثراً عميقاً في حياة الناس، فكيف إذا ذهب الحديث والشرح عن أشخاص كـ “نيكولا تيسلا” الذي فتح للبشرية طرقاً ليؤسس لما نحن عليه اليوم من حياة متقدمة، فاخترع التيار المتناوب ومحطة كهربائية لاسلكية لتوليد الطاقة الكهربائية، لكنه حورب بها لأجل شركات الكهرباء التي فضلت المال على هذه الخدمة النظيفة الدائمة، إضافة الى مجموعة اختراعات يفوق عددها الثلاثمئة اختراع حُفظت في ثنايا البنتاغون والتي لا يزالون ينفذونها لغاية الآن.

ومن تيسلا إلى آينشتاين ونيوتن وسقراط ومايكل جوردان وغيرهم كثيرون ممن لم يذهبوا إلى حيث يوجد طريق، بل ذهبوا إلى حيث لا يوجد طريق وتركوا أثراً جلياً قوياً واضحاً لا تستطيع البشرية أن تغض بصرها عنه.

هذا في فعل الكبار من أصحاب الأهداف والإرادة، أما في الحياة اليومية التي لا تحتاج لمن يسير وفق القواعد والقوانين التي تخلق نسخاً مقلدة ومكررة من البشر، وبدل أن تفيد تضر وتبطء عملية الوعي الكوني الكامل التي تتجه نحو التوسع دائماً وتحتاج لآثار مهما كانت صغيرة، لكنها فاعلة ومهمة وقيمة، فمن عمل لهدف نبيل حصد ابتسامة وترك أثراً رائعاً يلقى نتائجه في القادمات من الأيام والسنين، لأن لأي فعل أثر قد يحي أو يميت بالمعنى المجازي للنفس.
ويبقى أهم أثر يترك.. هناك حيث لا توجد طرق معبدة ولا طرق منارة، وربما وعرة ومجهدة وتحتاج للصبر والإيمان وثم الإيمان، لكن نهايتها جميلة ومستدامة لما بعد آلاف السنوات من هذا العمر.

ليس هذا فقط، بل إن العالم يفسح الطريق للمرء الذي يعرف أين هو ذاهب، بمعنى لا يكفي أننا نريد أن نذهب في طريق جديد، بل لا بد من معرفة إلى أين سيصل في النهاية، وهنا يكمن سر النجاح في الحياة، فكل عالم أو فنان أو ناجح بدأ وفي رأسه النهاية أو الهدف الذي يرنو إليه، وهذا بالتأكيد ما فعله جيف بيزوز أو آينشتاين وبراد بيت ومايكل جوردن وغيرهم من الأشخاص الذين وضعوا نصب أعينهم هدفاً ومشوا نحوه على رغم كل العقبات والإحباطات التي تقف كتجارب تمتحن الإيمان والثقة لتترك أثراً جيداً في الإنسان والكون ذاته.

 

إن معرفة الإنسان للنهاية تجعله يرى عند وصوله أبواباً تفتح ذراعيها وتغدق عليه هباتٍ تفوق توقعاته، لأنها خطواته كانت ثابتة مؤثرة قادرة على الخلق حتى في أحلك الظروف، وهذا ما قصده حرفياً الفيلسوف الأميركي “رالف والدو إيميرسون” عندما قال: “لا تذهب إلى حيث يأخذك الطريق، بل اذهب إلى حيث لا يوجد طريق واترك أثراً”.

أجواء برس

“أجواء” مجموعة من الإعلام العربي المحترف الملتزم بكلمة حرّة من دون مواربة، نجتمع على صدق التعبير والخبر الصحيح من مصدره، نعبّر عن رأينا ونحترم رأي الآخرين ضمن حدود أخلاقيات المهنة. “أجواء” الصحافة والإعلام، حقيقة الواقع في جريدة إلكترونية. نسعى لنكون مع الجميع في كل المواقف، من الحدث وما وراءه، على مدار الساعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى