الخطيب: لبنان لن يُحكَم الا بالتوافق لبناء دولة حقيقية عادلة وقادرة على حماية سيادتها

أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الاعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس في طريق المطار، وألقى خطبة الجمعة التي قال فيها: “بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون. ولا يؤدي حقّه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى، وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى، وسِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ، وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ; سِيرَتُهُ الْقَصْدُ، وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ، وَكَلاَمُهُ الْفَصْلُ. إمام لكلِّ متَّقٍ وقدوة لمن يريد أن يتَّقي، وهو بصيرة الهادي، والشهاب اللامع لمن يريد أن يستضيء به. من كَانَ كَاف لَنا فِي الأسْوَةِ، وَدَلِيلٌ لَنا عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا، وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا، وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا، وَفُطِمَ مِنْ رَضَاعِهَا، وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا. وعلى آله الاطهار الاخيار الذين هم موضع سرّ الله، وملجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حِكَمِه، وكهوف كتبه، وجبال دينه. بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه فیهم کرائم القرآن، وهم کنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم یسبقوا. عباد الله اتقوا الله وتوبوا اليه واعلموا انكم ملاقوه. فانظروا لأنفسكم ما انتم فاعلون. فاليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل. قال الامام علي بن أبي طالب سلام الله عليه: ” ارتحلت الدُّنيا مدبرةً، وارتحلت الآخرة مقبلةً، ولكلِّ واحدةٍ منهما بّنُونَ، فكونوا من أبناءِ الآخرةِ، ولا تكونوا من أبناءِ الدنيا؛ فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل”. وأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ، ولَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ، قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا، وغَرَّتْ بِزِينَتِهَا، دَارُهَا هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا فَخَلَطَ حَلَالَهَا بِحَرَامِهَا، وخَيْرَهَا بِشَرِّهَا وحَيَاتَهَا بِمَوْتِهَا، وحُلْوَهَا بِمُرِّهَا، لَمْ يُصْفِهَا اللَّه تَعَالَى لأَوْلِيَائِه، ولَمْ يَضِنَّ بِهَا عَلَى أَعْدَائِه، خَيْرُهَا زَهِيدٌ وشَرُّهَا عَتِيدٌ، وجَمْعُهَا يَنْفَدُ ومُلْكُهَا يُسْلَبُ وعَامِرُهَا يَخْرَبُ، إن أقبلت غرت، وإن أدبرت ضرت”.

أضاف: “إن معاوية وفد عليه ضرارة بن ضمرة – وكان من أصحاب أمير المؤمنين ومن خواصه – وأراد أن يفتك به، فلما رأى زهده وتقواه واشتغاله بالآخرة عن الدنيا، عدل عن ذلك وأراد امتحانه، فقال: صف لي علياً، فقال: اعفني، فقال: أقسمت عليك بحقه إلا ما وصفته.قال: أما إذا كان ولا بد فإنه والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، ينفجر العلم من جوانبه، وتنفلق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، كان – صلوات الله عليه – غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن – والله – مع تقربه لنا وقربه منا لا نكاد نُكلّمه هيبةً له. كان – صلوات الله عليه – يُعظّم أهل الدين، ويُقرّب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وإني أشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه – وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه- قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: يا دنيا غرّي غيري، أبي تعرضتِ؟ أم إلي تشوقتِ؟ هيهات! قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيكِ، فعمركِ قصير، وخطركِ كبير، وعيشكِ حقير، آهٍ من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق. وقد أمرتم بلزوم سمتهم واتباع اثرهم”.

وتابع: “قال أمير المؤمنين: “انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ، وَاتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدىً، وَلَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى، فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا، وَإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا، وَلاَ تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، وَلاَ تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا”. وهل لكم أكثر نصحاً من كتاب ربكم وكلام مدينة علم نبيكم، من زقه العلم زقاً، باب حطة من دخله كان آمناً. (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ). (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) . فالله الله في مواسم العمر! والبدار البدار قبل الفوات! واستشهدوا العلم، واستبدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا النفوس، واستظهروا بالزاد، فكأنْ قد حَدَا الحادي، فلم يُفهم صوته من وقع دمع الندم. وقال لقمان لابنه: يا بني إن الدنيا بحر عميق وقد هلك فيها عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الايمان بالله، واجعل زادك فيها تقوى الله، واجعل شراعها التوكل على الله، فإن نجوت فبرحمة الله، وإن هلكت فبذنوبك، وأشد ساعاته يوم يولد، ويوم يموت، ويوم يبعث. ولقد سلَّم الله تعالى على يحيى في هذه الساعات فقال الله تعالى: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) وقد سلَّم عيسى على نفسه فقال: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا). فقد خُلِقتم للبقاء ولم تُخلَقوا للفناء، لقول النبي (ص): “ما خُلقتم للفناء، بل خُلقتم للبقاء، وإنما تنقلون من دار إلى دار، وإنها في الأرض غريبة وفي الأبدان مسجونة”. (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). قال الإمام الصادق: فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإن أمكنة القيامة خمسون موقفاً، كل موقف مقام ألف سنة، ثم تلا هذه الآية: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)”.

وتابع: “يقول امير المؤمنين: ” إنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ الْعِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمَثُلَاتِ حَجَزَتْهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ… أَلَا وَإِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا وَخُلِعَتْ لُجُمُهَا فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي النَّارِ أَلَا وَإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا وَأُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ”.

وأردف: ” قال تعالى: (وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِىٓ أَنفُسِهِمْ قَوْلًۢا بَلِيغًا)، وهو اعتماد النصح وقول كلمة الحق والصدق وخصوصا في تناول الشؤون الوطنية، واهمها القضايا التي تتعلق بمصائر الاوطان وقضايا الإنسانية العامة التي تحتاج الى التجرد عن المصالح الفئوية والذاتية والخروج الى الفضاء الانساني الاوسع على اسس اخلاقية ومنطقية. ومن هذا المنظار فلا يمكن ان تكون المقاربات للأجوبة على الاشكاليات الا متقاربة، وتفضي الى حلول منصفة تحقق الامن والاستقرار والمصالح الوطنية العامة. اما اذا كانت المنطلقات للمقاربات قائمة على الانغلاق على الذات والافق الضيق، فستكون النتائج كارثية، لأنها ستفتقد القواعد الاخلاقية والمنطقية وتبتعد عن الصدق، ويحل معها المكر والخداع والكذب وتنتهي الى تعقيد الامور وابتعاد الحلول وتفضي الى الصراع الذي لن تكون نتائجه الا المآسي والدمار والخراب. ولقد شهدنا وعشنا كلبنانيين هذه التجارب وهذه المآسي التي كان منطلقها ضيق الأفق ورفض بناء الدولة العادلة والقادرة التي تتسع لكل ابنائها والاصرار من البعض على الغَلَبة والكسر والانكسار ورفض الآخر والتعالي عليه وسحقه، فأما أن يُحقّق مأربه بالانتصار عليه أو يرفض العيش معه، الامر الذي يستحيل معه بقاء للوطن، رافضاً للحل المنطقي بالاقتناع بالتساوي معه في الحقوق والواجبات الذي معه فقط يتم حفظ الوجود للجميع”.

واعتبر إنّ “الخطاب اللامنطقي الذي يتناول به البعض موضوع السلاح والاصرار منه على أن الحل هو بنزعه، ولو بالطلب من العدو ومن خلفه، ومن دون تقديم أي تبرير او تفسير منطقي، لا يُفهم الا بهذه الخلفية، خلفية الكسر والانكسار، وبجلافة من يريد إفهام جمهور المقاومة بالهزيمة والتعاطي معها بأنها العدو، من دون من هو العدو الحقيقي للبنان حسب الدستور، يدفع بالامور الى ما لا تُحمَد عقباه، وهو كمن يدعو نفسه للانتحار على طريقة “اقتلوني ومالكا”، وهو ما لا يمكن لنا أن نُوفّر له امكانية التحقق . وسيُفشل العقلاء من اللبنانيين هذا المشروع الانتحاري، ولن يدَعوا أحداً أخذهم الى هذا الجنون. وعلى هؤلاء احترام موقفهم الذي عبَّروا عنه بانتخاب فخامة رئيس الجمهورية والالتزام بخطاب القسم، وكان واضحاً في أن موضوع السلاح مسألة داخلية تُحلّ بالحوار لا بالفرض والنزع كما يحلو لهم أن يُعبّروا. فلبنان لن يُحكَم الا بالتوافق، فليكن التوافق على بناء دولة حقيقية عادلة وقادرة على حماية سيادتها وكرامة أبنائها، أمام عدوٍ غاشمٍ متربّصٍ وطامعٍ بأرضه وثرواته وانتزاع دوره وهو ما زال يمارس غطرسته مستبيحاً لبنان أرضاً وجواً مرعداً ومزبداً. ولتكن ذكرى مجزرة قانا التي تصادف اليوم عبرة لهؤلاء، إن كانوا ممن يعتبر ويتذكر، وانى لهم التذكر وهم يرون ما يرتكبه هذا الوحش الكاسر من جرائم في مشاهد حية يندى لها جبين الانسانية بحق اللبنانيين والفلسطينين، دونما حاجز من قانون دولي او منظمات دولية ، وخصوصاً في غزة والضفة الغربية اذا كانوا يرون او يسمعون او كان لهم قلب، لذلك فالحوار والتوافق على مصلحة لبنان هو القاعدة الوحيدة والمنطقية للحوار كمعبر وحيد للتوافق، وليس على قاعدة المنتصر والمهزوم الموهومة، فليس هناك من هزيمة سوى الهزيمة النفسية التي يعيشها هؤلاء ويريدون أن يشاركهم الآخرون هذا الشعور”.

وختم الخطيب: “فالأولى بلبنان في هذه المرحلة الدقيقة والخطيرة أن يستفيد من كل عناصر قوته ،لا أن يرهن نفسه للضعف والوهن الذي يدفع العدو لاستضعافه وابتزازه ورفع وتيرة التنازلات. ونحن في هذا المجال نعوّل على حكمة الرؤساء الثلاثة الذين يمسكون بهذا الملف. فالتاريخ سوف يُسجّل في صفحاته المواقف في زمن الشدة. فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره، والسلام على من اتبع الهدى. ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾.”

 

أجواء برس

“أجواء” مجموعة من الإعلام العربي المحترف الملتزم بكلمة حرّة من دون مواربة، نجتمع على صدق التعبير والخبر الصحيح من مصدره، نعبّر عن رأينا ونحترم رأي الآخرين ضمن حدود أخلاقيات المهنة. “أجواء” الصحافة والإعلام، حقيقة الواقع في جريدة إلكترونية. نسعى لنكون مع الجميع في كل المواقف، من الحدث وما وراءه، على مدار الساعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى