رفقا بقلوب البشر

بقلم د. شيرين العدوي

رغم أني لست المسؤولة عنه أكاديمياً أو علمياً أصر على مقابلتي على انفراد، فتخيرت الموعد المناسب لاستقباله، أحب الإصرار والنبض السابح في قلوب طلاب الجامعة الصغار، أحيانا كلمة واحدة تغير مسار إنسان بالكامل، وتفتح أمامه كل الأبواب والنوافذ.

دخل علي شاب في العشرينيات من عمره، وسيم طويل قوي البنيان، يبدو عليه علامات الرفاهية، وما إن جلس حتى انخرط في بكاء مرير. تركته يفرغ ما بجعبته حتى فرغ، ثم بدأ في سرد قصته، قال: إنه الآن يعمل مع دراسته ووصل بعمله وأفكاره أن استطاع في هذه السن المبكرة شراء شقة وسيارة، وهو من يدفع مصاريف جامعته الخاصة من حر ماله. فانبهرت بآدائه في الحياة وشجعته بعدما تأكدت أن أمواله حلال، وأعجبت جدا بذكائه وقدرته على تحقيق الحلم في وقت عشنا فيه ملايين السنوات الضوئية لم نحققه، ومات غيرنا وهو غير قادر على الحلم من الأساس.

فعاجلني بكلمة ألجمتني لثوان, لكني مطرود من رحمة الله، لأن أبي تبرأ مني. فوقفت لثوان غير مستوعبة وسألته: ما السبب؟ هل هو منفصل عن والدتك؟ فقال: يا ليته فعل! ثم أكمل أبي يكره التفوق، ويكره أن يرى أحدا ناجحاً في الحياة غيره، يشعر أن الكون كله يجب ألا ينفك عن مداره، لقد قاسى والدي جداً في بداية حياته، هو الآن رجل عظيم، وأنا معجب به، وبما وصل إليه في دولة عربية تقدره وتعطيه مكانته.

فسألته: إذن؛ فما المشكلة! ما الذي باعد بينكما؟ فأجاب:المشكلة أنه يحقد علي، إنه لا يستطيع أن يتخيل لماذا لم أعش مثله! لماذا لم أمش حافياً مثله؟ لماذا لم أنم وأنا جائع كما كان يفعل ليوفر ثمن العشاء؟ وأكمل كنت أخاف أن أجلس في المنزل وهو موجود، فهو لم يكف عن أذيتي في يوم من الأيام ورميي بأقذع الألفاظ بصوت جهوري كان يرعبني ويزلزل كياني، فإذا حاولت والدتي الدفاع عني أهانها ونالها مالا يرضيني. لذلك منذ نعومة أظفاري عملت بمفردي، من دون اللجوء إلى معارفه؛ حتى وصلت لما أنا فيه وأنا مازلت في الدراسة، فأنا مدير لشركة إعلانات أجنبية تدفع بالدولار. حلمي أن أخلّص أمي وأختي من براثنه، حتى تحييا في سلام نفسي.

فسألته فما الشعرة التي قصمت ظهر البعير بينكما؟ قال: تبرأ مني لما علم أني اشتريت سيارة وشقة من حر مالي. سادت برهة من الصمت إلى أن استوعبت الموقف كله. هذه ليست المرة الأولى التي تقابلني مثل هذه الحالات. بالطبع نصحته باللجوء لطبيب نفسي لرفع الآثار الدموية من روحه وتضميدها، ثم النظر لنفسه الآن كم هو مكتمل الرجولة نفساً وعملا، وعليه رد إساءة الأب بالحسنى مع عدم الاختلاط به أو الاقتراب منه. ثم بشرته وأنا قلبي يعتصر ألما أنه ليس مطرودا من رحمة الله. ولكن من آذاه هو المطرود. بعدما قام من أمامي مكتمل الثقة مستبشرا بالأمل. انفجرت باكية، وفكرت في عمل مركز يدعم الأطفال المقهورين نفسياً وانقاذهم من آباء وأمهات يضيعون الأمانة أحياناً.

أجواء برس

“أجواء” مجموعة من الإعلام العربي المحترف الملتزم بكلمة حرّة من دون مواربة، نجتمع على صدق التعبير والخبر الصحيح من مصدره، نعبّر عن رأينا ونحترم رأي الآخرين ضمن حدود أخلاقيات المهنة. “أجواء” الصحافة والإعلام، حقيقة الواقع في جريدة إلكترونية. نسعى لنكون مع الجميع في كل المواقف، من الحدث وما وراءه، على مدار الساعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى