بوتين الاحاطة بالتاريخ لصناعة المستقبل

ميخائيل عوض

لم يحسن الغرب على رغم امتلاكه لآلاف مراكز التفكير والتخطيط وإدارة حروب المستقبل ومسح سيناريواته وعلى رغم أن أميركا نفسها تم أنشائها كدولة شركات لا تاريخ لها تلهث هرباً من تاريخها وبحثاً عن الفرص بالمستقبل.
وعلى رغم أن كثيراً من الناس ونخب اللغة الحجرية والخشبية ما زالوا يتلون الصلوات والابتهالات في معبد الغرب المتداع، ويجترون ذات العبارات والأوصاف على أميركا، ويتعاملون معها أنها دولة وقوة قدرية توزع الأرزاق والزعامات والأدوار على العالمين والأمم والدول.

إلا أن كل ذلك لم يفد في فك شيفرة بوتين كما عجز الجميع بمن فيهم الذكاء الصناعي عن فهم وفك شيفرة حزب الله ومقاومته والحبل على الغارب، حتى شيفرة فلسطين وشعبها وسورية ومخزن أسرارها ضلت أحاجي لم يفهمها الغرب ولا قارب فهم خاصياتها وميزاتها.
جاء بوتين بانقلاب سلس على يلتسن واختار يوم راس السنة، وسنة 2000 في إشارة ملموسة إلى أنها تؤلف ولا تؤلفان فالألفية الثالثة ليست للغرب ولا للأنكلو- ساكسون والأطلسي بضفتيه، المحكوم بالتراجع، فالأزمات وربما عصور الظلمات إن لم تقع حرب إبادة البشر وإعادة الحياة الإنسانية إلى العصر الحجري ما ينتظر الأطلسي والغرب بعد أن استنفذ كل ما لديه من عدوانية وحملات إبادة واستعباد.
بهدوء وبثقة وبقدرة هائلة على المناورة والإدارة تمكن من روسيا وشطب الفريق الليبرالي واستعاد أملاك الدولة وإعاد صياغة الحياة السياسية والاجتماعية وميكانزمات عمل الدولة، وأمن روسيا وإعاد النهوض بناسها والارتقاء بمكانتها ولم تحد عينه عن هدفه المحوري المتجسد بالثأر لروسيا، وليس للاتحاد السوفياتي، فللرجل ملاحظات جوهرية على البلاشفة وإدارتهم للحرب وتنازلاتهم وعقيديتهم وتخليهم عن مناطق واسعة من روسيا التاريخية لحماية السلطة البلشفية، لا الأمة الروسية، وتخليهم عن أجزاء واسعة من روسيا والروس، وجاءت حقبة غورباتشوف – يلتسن وأذلت روسيا ونهبتها وتسببت باضطهاد للروس حيث أقاموا خارج روسية.
بوتين الروسي والأرثوذكسي ضنين بالقيم وبتعاليم الكنيسة، فالزواج بين أنثى وذكر وفي المسيحية سر من الأسرار، والشذوذ الجنسي آفة وعاهة، ولن يكون الروس جنس ثالث، كما يريدهم الغرب لتفكيك وحدتهم ونسف قيمهم وثقافتهم لتعميم قيم الغرب الاستعمارية والاستعبادية وعالمهم كاذب ومفلس وإلى الرحيل، بينما من آسيا والمشروع الأوراسي ينبثق العالم الجديد ويتولد على يد روسيا وحلفها والمسارح التي قاتلت فيها إلى جانب سورية وليبيا والجزائر ومع إيران.
لم يتحسب الغرب الأطلسي- الأنكلو ساكسوني لثأر القيصر. ففاجأهم في سورية وعاصفة السوخوي، ولم يتحسبوا أنه لن يترك بلاروسيا تسقط بثورة ملونة وثورة تليميديا وقادر على الحسم السريع، وعندما فكروا بتضيق الخناق عليه في قره باخ ترك اللعبة تأخذ مداها، وفي الوقت المناسب أمر أذربيجان وأرمينيا بأن هذا هو حلي والشرطة العسكرية الروسية الضامن، وانتهى زمن اللعب والمناورة. ويوم خطط الأطلسي وتركيا والإخوان المسلمين لإسقاط كازاخستان كانت قوات بوتين المحمولة جواً أسرع وأفشلت ثورة ملونة تستهدف روسيا مباشرة وتحاول استباقيا تأمين أوروبا بنفط وغاز آسيا.
وكهذه وتلك أنذرهم واستعرض عضلاته وعدل بالاستراتيجية الدفاعية النووية، ونفذت القوات العسكرية الروسية عشرات المناورات النووية، وأنتجت أخطر وأهم جديد الحروب والعسكرة في سوريا، بأن دمجت السلاح الفردي والوحدات الخاصة والمدرعات والقوة الجو- فضاىية والسلاح النووي في المعارك، واختبرت الصواريخ ودقتها من جهات الأرض الأربع، ومن البحار التي ضربت مواقع الارهابين في سورية وأجريت مناورات شاركت فيها كل القوى العسكرية ومن البر والبحار  والفضاء، وكل ذلك تحت أعين الأطلسي وفي عقر داره ومناطق نفوذه، وعندما أكمل عدته أعلن حربه على الفاشية والنازية في أوكرانيا وضلل الخبراء والمهتمين وأركان الجيوش التي لم تعرف مدى وزمن وأهداف العملية العسكرية، وارتبكت في تفسير تكتيكات القوات الروسية وذهبت بالأوهام لإشاعة اغتيال بوتين والانقلاب عليه وسقوطه وانهيار روسيا الاقتصادي والاجتماعي، بينما الرجل كان قد استعد للحصار الاقتصادي وللعقوبات الأقسى ولكل أجراء متوقع وكشف في أن جعبته مليئة بالأهداف والتعامل مع كل خطوة بما يفشلها ويرد على صانعها ويحقق المزيد من الثبات والتقدم والتطمين، فصارت قضية النفط والغاز الروسي التي خطط الغرب لتكون مقتلة روسيا سلاحها الأكثر فتكاً بالنخب الأوروبية الحاكمة وبتحالفات ورجال أميركا في النظم والسلطات، وهو يخوض حرب أوكرانيا والحرب الاقتصادية لم يترك افريقيا ولا أميركا اللاتينية والجنوبية، ولا أدار الضهر لإيران ولم يغير من حجم قواته في سورية ولم يتجاهل تفاهمات أستانا مع تركيا، وألزم أردوغان بالانفتاح على الأسد ونشدان لقائه والسعي لإيجاد مخارج من الورطة في سورية ساحة التفاعل والتعاون، وربما الاشتباك مع روسيا وإيران.
سقطت كل الرهانات  والخطط والاستراتيجيات والتكتيكات والتحالفات في مواجهة روسيا وفشلت كل الجهود وضل صوت بوتين الأعلى وأمره النافذة وخططه التي تتقدم وتنتصر.
إنه بوتين  المؤمن والمقتنع أن عالماً جديداً يولد ولروسيا دور القابلة القانونية في توليده.
فأي عالم سيبصر النور؟
صدقت أيها القيصر بوتين، عالم جديد لا فقط نظام عالمي تحتاجه البشرية لتحقق عصرها الحضاري الثالث وقد دنت ساعته.
قالها بفطنته، التحولات الجارية ثورية، ويمكن وصفها بالفرط ثورية، فالجديد لا يولد بلا مخاض وآلام والحرب هي الطلقة الأخيرة لدفع المولود من رحم القديم الذاهب إلى النسيان.

أجواء برس

“أجواء” مجموعة من الإعلام العربي المحترف الملتزم بكلمة حرّة من دون مواربة، نجتمع على صدق التعبير والخبر الصحيح من مصدره، نعبّر عن رأينا ونحترم رأي الآخرين ضمن حدود أخلاقيات المهنة. “أجواء” الصحافة والإعلام، حقيقة الواقع في جريدة إلكترونية. نسعى لنكون مع الجميع في كل المواقف، من الحدث وما وراءه، على مدار الساعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى