يوم الأربعاء الأسود في عراد –2

بقلم محمد حسن العرادي – البحرين

على ناصية الطريق وقفت مشدوهاً من هول الصدمة، ألقيت نظرة فاحصة على بيت عمي المنهار بفعل الإنفجار، سرح الخيال بعيداً، وعادت الذاكرة بي أكثر من نصف قرن من الزمان، هنا لعبنا وتعبنا، هنا شربنا وإرتوينا، هنا تشاقينا ومارسنا طفولتنا البريئة، وهناك قفزنا على الطرقات نتراكض في سباق مع الزمن، كل منا ينتظر مستقبله المجهول، كان الفضاء قبالة بيت عمي الحاج جعفر مفتوحاً من جهة الشمال بدون حدود، عندما تصعد إلى أعلى السطح، أو تقف على عتبات المنزل وترمي بصرك قليلاً، ترى أمواج البحر وهي تتكسر على شاطئ قريتنا فيتصاعد الزبد القضي الى السماء يرسم خرائط من ماء شفاف سرعان ما تتلاشى وهي تسقط مرتدة الى عرض البحر، تقف على صخرة بارزة فوق الشاطئ فتشاهد مطار البحرين الدولي بكل وضوح، طائرات تهبط وأخرى تقلع محملة بالمسافرين من وإلى كل مكان، ونقاش ينطلق بين الشباب والصبيان، حول طائرة تطوف في السماء، يقول أحدهم، أنتم ترون هذه الطائرة في سمائنا، لكنها في الواقع بعيدة جداً، ربما تكون في بلاد أخرى، ويقرر تلك المعلومة غير الدقيقة قائلاً، نظراً لكروية الأرض فإننا نراها من بعيد.

تتعالى الضحكات فيما بيننا ونعود نتطلع إلى صفحات البحر وهي تنساب أمامنا، تفصلنا عن الضفة الأخرى حيث مدينة المحرق التي كانت تشكل بالنسبة لنا عالما أخراً لم نعتاده حتى حان وقت انتقالنا إلى مرحلة الدراسة الإعدادية في مدرسة طارق بن زياد الإعدادية التي كانت تعانق البحر من الجهة الشمالية المقابلة لقرية عراد، في ذلك الوقت أصبحنا ننتقل بين الضفتين يومياً في باصات خشبية، وبينما أنا اتأمل في تلك المرحلة الذهبية من طفولتنا التي مضى بها قطار العمر، يمر أمامي عدد من أبناء الجالية الآسيوية وهم يرطنون بلغات غير عربية باتت تهيمن على المشهد في مختلف مناطق البحرين حتى غزت القرى التي كانت مقفلة على أصحابها، كل من مر أمامي يحمل بيده هاتفاً يصور به ماحدث لبيت عمي المنهار بفعل الإنفجار، بعضهم بدى حزينا وآخرون كانوا يقهقهون كأنهم يشاهدون لقطات فيلم أميركي طويل، في لحظة فاصلة من الزمن تحول الجميع إلى مراسلين واعلاميين ينقلون الحدث بالصوت والصورة، بينما الأجهزة الإعلامية الرسمية لا تزال غائبة عن المشهد، وربما لم تسمع عنه بعد، في تلك اللحظات المشحونة بالعاطفة والألم تتقاذفك الأسئلة، وتغيب عن بالك الأجوبة.

وبينما أنت تسرح بالخيال والأفكار، يطرق عقلك سؤال كبير حول حجم المأساة التي وقعت أمامك منذ قليل، وتطلق العنان إلى نفسك تفكر في هذا الحادث الاستثنائي الذي ستكون له تبعات كثيرة، في حياة القرية التي تعشقها، فلقد كان حجم الدمار والأضرار التي أصابت المنزل المنهار والمساكن المجاورة والمحلات التجارية والجامع والحسينية كبيراً جداً واكبر من تتحمله القرية، تقرر لحظتها التعرف على حجم الأضرار التي وقعت، تنظر ناحية المنزل فتشاهد الدخان لايزال يتصاعد من بين الركام، وشعلة نار متقدة تطل السنتها من رأس أسطوانة غاز لم تنفجر، ينادي أحدهم رجال الدفاع المدني الذين وصلوا قبل لحظات للتعامل مع الشعلة، فيبادر إلى إطفاء النار وسحب أسطوانة الغاز بعيداً، تحمد الله الذي إنقذنا من مخاطر انفجار هذه الإسطوانة وغيرها في ظل وجود هذا العدد الكبير من المتفرجين والمارة، ثم تذهب للاطمئنان اكثر فتجد أن اكثر من تسع اسطوانات غاز مختلفة الاحجام تم سحبها من موقع الانفجار، قظر الله أنها لم تنفجر فتفاقم حجم المأساة.

يقع بيت العم الحاج جعفر بن راشد العرادي المنهار بفعل الإنفجار على ناصيتين شمال قرية عراد، تفصله عن الشارع العام مسافة لا تزيد عن 50 متراً، ويُشرف على طريقين رئيسين في مدخل القرية، الأول يحمل الرقم 4231 والثاني يحمل الرقم 4233، ومن موقعه يطل البيت على جامع الإمام علي أمير المؤمنين في الجهة الغربية، ولا يفصل بينهما سوى الطريق الذي لايزيد عرضه على 15 متراً، وعلى القرب من المنزل تقع حسينية الحاج عباس العرادي على إمتداد الطريق بمسافة لاتزيد عن 40 متراً، وكأن هذا المنزل يشكل إحدى البوابات الشمالية للقرية، وهو رابض على أرض لاتزيد مساحتها عن 15 متراً عرضاً و20 متراً طول، وقد شكل توأماً تاريخياً مع بيت عمي الحاج أحمد بن راشد العرادي الملاصق به، حيث شكل المنزلان بيتاً واحداً ذا جانبين، يتكون كل منهما من حجرتين ومطبخ ومرافق صحية بسيطة، لكنهما يشتركان في الفناء (الحوش مفتوح من الداخل) ومجلس العائلة (مجلس مشترك يتوسط المسافة بيت البيتين وله مدخل على كل بيت وبوابة خاصة تفتح على الشارع العام)، قبل أن يتم هدم هذا البيت المشترك الذي شكل علامة فارقة لعصر من عصور القرية الجميلة، ولقد أعيد بناء البيتين بحسب حاجة وقدرات الأسرتين العراديتين.

يتكون المنزل المهنار من طابقين، يضم الطابق الأرضي عدد من المحلات التجارية من بينها صالون حلاقة رجالي تعود ملكيته لأحد أبناء القرية، ومحل شاغر لم يتسنى للعائلة تأجيره منذ سنوات نتيجة الكساد الذي أصاب المنطقة، إضافة إلى مطعم محلي يقدم الأطعمة الإيرانية بإسم مطعم قلعة عراد، وقد تمدد المطعم داخل المنزل وإستحوذ على أغلب غرف البيت في الطابق الارضي وأحد المحال التجارية الملاصقة للمطعم، بينما إحتفظت عائلة عمي بالجزء الشرقي من الطابق الأرضي كملاذٍ تجتمع فيه أيام العطل الأسبوعية والمناسبات الإجتماعية والدينية، أما الطابق العلوي فقد تم إعادة تصميمه وهندسته ليكون بيت عمال، بعد أن أضيفت له كافة غرف المنزل في الطابق العلوي، وأصبح مناسباً لحياة العمال الآسيويين، حيث يقطن فيه عدد من العاملين في المحلات التجارية المنتشرة في القرية.

في جوار الموقع المنهار بساحة الإنفجار المريع بقرية عراد، كان المشهد فوضوياً بشكل كامل، كل مشغول بنفسه، يقرر أين يقف وكيف يعاين أو يرصد ويوثق تفاصيل البيت المنهار وآثار الدمار والركام المتطاير في كل ناحية، عشرات بل مئات من الهواتف النقالة كانت بأيدي المتجمهرين، تلتقط الصور وتوثق الحدث عبر الفيديو بالصوت والصورة، تسمع لغات ولهجات مختلفة ومتداخلة، العربية بلهجاتها ولكناتها المختلفة، الهنود والباكستان يتحدثون بلغة الأوردو واخواتها، اللغة البنغالية حضرت بشكل لافت، ولغات أسيوية لم تسمع بها او عنها من قبل، كل واحد ينقل إلى بني جلدته مشاهداته ويعلق عليها مبالغا بالتهويل والتأويل، ربما يطمىنهم بأنه في حال طيبة لم يصبه سوء، لم يكن هناك من يضبط المشهد أو يديره، ولم يتمكن أحد من السيطرة على الحشد المختلط وربما لم يحاول أحد فعل ذلك، كل يغني على ليلاه، كثيرون صعدوا فوق الركام، إقتربوا كثيراً من مصادر الدخان، الناس بطبيعتها حشرية، لا تقدر حجم المخاطر المحتملة ما بعد الإنفجار، ورغم بعض الاصوات التي اطلقها بعض شباب القرية بالابتعاد عن موقع البيت المنهار، فان كثير من الناس وضعوا أنفسهم في موقع الحدث غير عابئين بالعواقب والمخاطر الجسيمة.

ما هي الا لحظات حتى طار الخبر ليملاء مواقع التواصل الإجتماعي وينتشر بسرعة البرق في طول البلاد وعرضها، وبينما الحدث يفرض نفسه بقوة ويتصدر إهتمامات الناس من جميع الأصناف والفئات بدأت طلائع الأجهزة الرسمية تتوافد إلى المكان في مشهد مرتبك ومتفاجئ، كانت الشرطة هي أول من وصل إلى الموقع المنهار، وبدأت في فرض طوق من الأمن حول المكان، كان لافتاً التوجيهات الصادرة من ضباط الشرطة بالابتعاد عن موقع الإنفجار مخافة أن تكون هناك تداعيات وإرتدادات جديدة، بدى أن لدى الشرطة مخاوف أمنية مبنية على عدم معرفة أسباب الأنفجار وإحتمال أن يكون بفعل فاعل، لذلك حرصت على أن يقف الجميع على مسافة آمنة، وتم على الفور مد الشريط الأمني حول المكان، وعلى الفور بدأت سيارات الإسعاف وسيارات الدفاع المدني تصل تباعاً، ثم مندوبين من مختلف الأجهزة الأمنية والبلدية، وفي لحظات أصبحت القرية أشبه بساحة معركة تعج بالمسئولين من مختلف المستويات، الذين باشروا التحقيق والتدقيق في الانفجار، وللقصة بقية .

أجواء برس

“أجواء” مجموعة من الإعلام العربي المحترف الملتزم بكلمة حرّة من دون مواربة، نجتمع على صدق التعبير والخبر الصحيح من مصدره، نعبّر عن رأينا ونحترم رأي الآخرين ضمن حدود أخلاقيات المهنة. “أجواء” الصحافة والإعلام، حقيقة الواقع في جريدة إلكترونية. نسعى لنكون مع الجميع في كل المواقف، من الحدث وما وراءه، على مدار الساعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى