عناصر فوج إطفاء بيروت يستذكرون يوم رحيل زملائهم…

سحر فارس، رالف ملاحي، جو بوصعب، شربل حتي، نجيب حتي، مثال حوا… هذه بعض أسماء رجال فرقة فوج إطفاء بيروت الذين قضوا في انفجار مرفأ العاصمة اللبنانية في الرابع من أغسطس/آب 2020.

نقشت أسماؤهم على لوحة رخامية في ساحة محطة الإطفاء بحي “الكارنتينا” الذي يقع غرب العاصمة بيروت والمتاخم للمرفأ، وأضيفت إلى أسماء رجال ونساء آخرين لقوا حتفهم في عمليات ميدانية أخرى.

ولا يزال رجال فوج إطفاء بيروت في انتظار نتائج التحقيق لمعرفة الأسباب التي أودت بحياة عشرة من زملائهم خلال الانفجار الذي هز مرفأ العاصمة اللبنانية في 4 أغسطس/آب 2020. وقد دونوا أسماء الضحايا على لوحة رخامية أضيفت إلى قائمة “شهداء” النيران. لكن وجوه هؤلاء الشباب وابتساماتهم لا تزال تلقي بظلالها على مركز الإطفاء الذي تركته الفرحة منذ ذلك اليوم “الرهيب”.

شبان في مقتبل العمر لن ينساهم مسؤول الفوج، الملازم أول علي نجم، الذي كان يرتعش حينما ذكر أسماءهم أمام كاميرات فرانس24، متسائلا “بأي ذنب قتلوا وما هو السبب الحقيقي وراء ذلك؟”

وقال نجم: “كنا نعيش في هذا الفوج كعائلة واحدة ونمضي سويا أوقاتا أكثر من تلك التي نقضيها مع عائلاتنا وأولادنا. لكن في 4 آب، فقدنا من هذه العائلة عشرة أشخاص (تسعة أولاد وبنت واحدة). لماذا فقدناهم؟ لا أدري. نريد أن نعرف حقيقة ما جرى. الشعب اللبناني بأكمله يريد أن يعرف ماذا وقع في المرفأ”.

وأضاف: “الفرق بيننا كإطفائيين وباقي اللبنانيين هو أننا كنا خارج المرفأ ثم دخلنا إليه للقيام بواجبنا. دخلنا إلى المرفأ لكي نحمي بيروت واللبنانيين، مع العلم أن فرقة إطفاء خاصة بالمرفأ كانت متواجدة في مكان الحادث، لكنها دمرت كليا جراء الانفجار”.

وكادت حصيلة القتلى ترتفع إلى أكثر من 40 شخصا حسب نجم لو لم يتصل رجال الإطفاء الأوائل الذين “استشهدوا” في المرفأ بزملائهم وطلبوا منهم الدعم.

ففي رمشه عين، غادر رجال إطفاء آخرون غرفهم وأماكن التدريب على متن سياراتهم باتجاه مكان الانفجار وقاموا بإخلاء البناية قبل أن تنفجر بقليل.

“الرأفة الإلهية هي التي حمت هؤلاء الشباب”، وفقا للملازم علي نجم. “فلو تأخروا قليلا في البناية، لقتلوا في الانفجار الذي دمرها كليا”.

وتابع: “نحن لا نعمل إلا لكي نحمي الناس. بدون مقابل ولا أي شيء، إلا تلك البسمة التي تظهر على وجه الأب أو الأم أو الأخت عندما نحمي شخصا ما أو نخلصه من الهلاك”.

ويتذكر علي نجم جيدا يوم وقوع الانفجار. كان يتواجد في بيته حين شعر بأن المنزل بدأ يهتز قبل وقوع الانفجار بدقيقة واحدة حسب قوله.

وحاول الاتصال في الحين بوحدة الإطفاء بمركز الكارنتينا، لكن لم يرد عليه أحد. فهرع إلى المركز ليجده مدمرا بالكامل وغرفة العمليات تحت الحطام وجدران المبنى ملطخة بدماء الجرحى.

وقال: “قررت الذهاب في الحين إلى المرفأ. لكن لم أكن أتصور حدة الخراب الذي لحق به ولا أستطيع وصف ما شاهدته على الطريق: أشلاء بشرية ملقاة على الأرض، امرأة داخل سيارة مقطوعة الرأس وأولادها الاثنان يبكيان ويصرخان. كان منظرا رهيبا لم أره في حياتي”، يروي نجم الذي أكد: “عشنا حروبا كثيرة في لبنان استغرقت أياما وأسابيع وشهورا، لكن انفجار مرفأ بيروت يوازي حربا مدتها عدة سنوات”.

وواصل قائلا: “لم نعثر على جثث رجال الإطفاء إلا بعد عشرين يوما من عمليات البحث. كانت جثثا مقطعة الأطراف. كان المشهد مخيفا ورهيبا يصعب تحمله نفسيا”.

وأشار إلى أن “4 أغسطس/آب هو بمثابة لعنة إلهية علينا وعلى بيروت. أتمنى أن يساعدنا الخالق لنمضي قدما في عملنا لأن الانفجار لم يدمر فقط المباني وسيارات الإسعاف بل قتلنا من داخل أنفسنا”.

واعترف الملازم أول الذي يريد أن “يفني حياته بمساعدة الآخرين”، بأن لا فرقة فوج إطفاء بيروت ولا أي فرقة أخرى كانت مهيأة لمواجهة مثل هذا الحادث “النووي”، منتقدا بشكل غير مباشر المسؤولين الذين “أعطوا الأمر بالذهاب إلى المرفأ لمكافحة النيران بدون معرفة طبيعة الانفجار وأسبابه”.

وقال في هذا الشأن: “طلبوا منا الذهاب لمكافحة النيران بدون أن يشرح لنا أحد ماذا كان يحدث داخل هذه المنطقة وطبيعة الانفجار. لو كنت أعرف بأن حادث الانفجار كان بسبب اشتعال نترات الأمونيوم لما ذهبنا، وكنا سنكتفي بقطع الطرقات وإخلاء الأماكن المجاورة”.

وبحلول الذكرى الأولى للانفجار، يشعر علي نجم بـ”حزن عميق” يشبه حزن شخص “فقد ابنه أو أمه أو والده”.

وقال: “قلوبنا مكسورة لكن عزيمتنا في مزاولة عملنا قوية جدا”. وأضاف: “نحن نطالب بالحقيقة الكاملة لأننا نريد أن نعرف لماذا قتل عشرة من الفرقة؟ هل قتلوا لأنهم كانوا يؤدون مهامهم أو بسبب الإهمال؟”، موضحا أن “عائلات الضحايا تأتي كل يوم إلى مركز فوج إطفاء بيروت للبكاء وللمطالبة بالحقيقة. لكن للأسف لم يتغير شيء منذ سنة. بالعكس الوضع في المركز تراجع أكثر. شاحنات الإطفاء مدمرة، المركز مدمر فيما أصبحنا لا نملك حتى سيارة إسعاف واحدة”.

يعتبر فوج إطفاء بيروت من بين أكبر مراكز الإطفاء في لبنان ويعمل فيه حوالي 600 شخص. فقد واجهوا عمليات صعبة للغاية، لكن انفجار مرفأ بيروت كان بمثابة “صاعقة كبيرة لم يتوقعها أحد دمرت قلوب كل الزملاء الذين يبكون رحيل عشرة من رفاقنا”، كما يؤكد الشاب مكرديج ظوموجيان (24 عاما).

وصرح ظوموجيان لفرانس24 وعيناه تجهشان بالبكاء: “لم نكن أصدقاء فقط بل إخوة. عشنا عيشة عمر. راحوا غدرا ولم نكن نتوقع ذلك”. وواصل: “بعد مرور سنة، نحن ننتظر نتائج التحقيق”.

وفي يوم وقوع الانفجار، حاول مكرديج ظوموجيان الاتصال بزملائه عبر تطبيق واتساب لكن لم يرد عليه أحد. “بعد مرور بعض الوقت على الانفجار، فهمت بأن شيئا ما وقع لهم. جئت إلى مركز الإطفاء ورأيت بأنه دمر. نقلنا الجرحى إلى المستشفى. وفي طريقنا رأينا جهنم الحمراء بعيوننا. أكثر من 300 شخص ملقون على الأرض. ذهبنا بعدها إلى المرفأ، لكن لم نستطع استيعاب ما حدث. رأينا الخراب ولم نصدق عيوننا. رأينا دمارا شاملا ولم نصدق بأن عشرة من زملائنا قضوا في هذا الدمار”.

وبعد عام على الانفجار، لا يزال مكرديج ظوموجيان يشعر بالحزن، و”نفسيته مدمرة من الداخل” كما يروي لأنه أدرك بأن أصدقاءه “الذين كانوا ملائكة على الأرض لن يعودوا أبدا إلى هذه الدنيا”. فيما يفكر بمغادرة لبنان في حال تلقى عرضا للعمل في بلد أجنبي.

وستشارك عائلات ضحايا عناصر الإطفاء الأربعاء في المظاهرات التي ستنظم قرب المرفأ للمطالبة بكشف الحقيقة لأن “هذه العائلات لن ترتاح قبل أن تعرف لماذا أولادها استشهدوا”، يؤكد الملازم علي نجم.

وأنهى: “نعم ندرك بأننا معرضون للشهادة وأنه في بعض الأحيان عندما نخرج في مهمة لإخماد النيران هناك احتمال ألا نعود أحياء. ندرك بأننا نتعامل مع النار. لكن الشيء الذي تعاملنا معه في 4 آب كان غولا وليس نارا”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى