العباس بن علي… رمز البطولة والإيثار والتضحية

بقلم محمد حسن العرادي – البحرين

من قصيدة للسيد جعفر الحلي بعنوان: عبست وجوه القوم يصف فيها العباس بن علي بن أبي طالب بطل كربلاء فيقول:
بطل تورث من أبيه شجاعة
فيها أنوف بني الضلالة ترغم
يلقي السلاح بشدة من بأسه
فالبيض تثلم والرماح تحطم
عرف المواعظ لاتفيد بمعشر
صموا عن النبأ العظيم كما عموا
فإنصاع يخطب بالجماجم والكلى فالسيف ينشر والمثقف ينظم
أو تشتكي العطش الفواطم عنده
وبصدر صعدته الفرات المفعم
لو سد ذو القرنين دون ورده
نسفته همته بما هو أعظم
ولو إستقى نهر المجرة لإرتقى
وطويل ذابلها إليها سلم ..

ما أجمل الوصف وأجّل الموصوف، فالعباس بن علي بن أبي طالب بطل كربلاء الذي ولد في 4 شعبان 26 هـ الموافق 5 مايو 645م المدينة المنورة، واستشهد في كربلاء يوم العاشر من محرم عام61 هجرية، مدافعاً ومنافحاً عن أخيه الامام الحسين وحرم رسول الله، وهو في ريعان الشباب، لم يتجاوز 35 سنة من عمره، كان مثالاً للبطولة والتضحية والإيثار، وقف إلى جانب أخيه، سداً منيعاً ولم يتخلى عنه في أحلك الظروف وأصعبها، رغم الكثير من فرص النجاة، ولعل من المناسب جداً أن نستعرض بعضاً من مواقفه التي خلدها التاريخ في معركة العزة والشهادة يوم كربلاء.

الموقف الأول:
عندما أحاطت الجيوش الأموية بمخيم الإمام الحسين (ع) وقُرعت طبول الحرب، كان واضحاً عدم تكافؤ القوة بين الجانبين، لكن العباس كان قائد أركان جيش الإمام الحسين وحامل لواءه، لذلك حرص على بث العزيمة والشجاعة بين إخوته وأبناء إخوته وعمومته وأنصاره، غير مكترث بالتهديدات التي يطلقها الجيش الأموي، وفي غمرة التحدي أرسل عمر بن سعد قائد الجيش اليزيدي، من يغري العباس وإخوته بالسلامة، وقف شمر بن ذي الجوشن أحد قادة العسكر الأموي منادياً (أين بنو إختنا، فلم يجبه العباس أو اي من إخوته) لكن الإمام الحسين صاحب الأخلاق العالية قال لأخيه العباس، أجبه ولو كان فاسقاً، وعندما وقف العباس وإخوته في مواجهة الشمر اللعين، عرض عليهم الأخير الإنسحاب بأمان وسلامة، حينها لم يتردد العباس في رفض هذا العرض القبيح، وكان الرد الحاسم على الشمر: (لعنك الله ولعن أمانك، أو تعطيني الأمان وإبن بنت رسول الله لا أمان له)، وعندما عاد إلى الإمام الحسين أشاد بموقفه الصلب وقدره له، ومع ذلك ترك له الخيار قائلاً (إن القوم ليس لهم طلبة غيري) لكن العباس أبى إلا الوقوف إلى جانب الحق حتى النفس الأخير.

الموقف الثاني:
بعد ثلاثة أيام من الحصار التام حيث مُنع فيه الماء عن معسكر الإمام الحسين عليه السلام، رغم وجود الحرم والأطفال والرضع، وقد بلغ العطش مبلغه حتى أن صدور الأمهات قد جف حليبها، فتعالى الصراخ والآهات والأنين بين الأطفال طلباً لشربة ماء، في تلك الأجواء جاءت سكينة بنت الإمام الحسين تحمل طفلاً صغيراً قد دلع لسانه على وجنتية من شدة العطش، طلبت من عمها العباس قطرة ماء تروي بها عطش الطفل الصغير وعطشها، نظر العباس إلى الإمام الحسين مستعطفاً طالباً الترخيص له بجلب الماء من نهر الفرات القريب، لم يجد الحسين بداً من الإستجابة، وعندما حمل العباس على القوم ووصل إلى النهر نزل إلى الماء، تناول غُرفة من الماء وهَمَّ برفعها ليشرب، لكنه تذكر عطش الإمام الحسين والحرم والأطفال، فرمى الماء من يده، ولسان حاله يقول: (يا نفس من بعد الحسين هوني، وبعده لا كُنت أن تكوني، هذا حُسين وارد المنون، وتشربين بارد المعين، هيهات ماهذا فِعال ديني، ولا فعال صادق اليقين)، ولأنه صادق اليقين فقد أبى أن يشرب قطرة من الماء قبل أخيه وأطفاله حتى قضى شهيداً عطشانا.

الموقف الثالث:
عندما بلغت القلوب التراقي، وأوشكت روح العباس بن علي أن تصعد إلى بارئها، في تلك اللحظات الحاسمة وقد قُطعت شمال العباس ويمينه وفُقئت عينه بسهم، وفُضخ رأسه بعمود من حديد، ولم يبق إلا الرمق الأخير من هذا العمر الذي أفناه في سبيل الله، أغمض العباس جفونه لحظات، لكنه أحس بيد فارس كريم تحنو عليه وتأخذ برأسه إلى حجر دافئ حنون، فتح عينه بصعوبة بالغة ورمق الفارس بنظرة حزينة، وسرعان ما تعرف عليه بأنه إبن والده وسيده الإمام الحسين جاء يودعه في اللحظات التي تعرجُ فيها روحه إلى الرفيق الأعلى، وبدون تردد وبكل إيثار وإحساس بالخجل والمحبة، سحبَ رأسه إلى التراب، فعلَ ذلك أكثر من مرة، وعندما سأله الإمام الحسين لماذا ترفع رأسك من حجري، كانت الإجابة تعبير صادق عن الوفاء وقمة الإيثار حتى في أصعب اللحظات، سيدي أبا عبدالله، وبعد قليل حين تأخذك سيوف القوم ونِبالهم وحرابهم ويتكاثر عليك القتلة، من يضع رأسك في حجره يامولاي، إنها مدرسة الفدائي الأول في الإسلام الإمام علي بن أبي طالب الذي لم يتوان عن البقاء في فراش النبي ليلة قرر كفار قريش اغتياله، وهذا الشبل من ذاك الأسد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى