
مساهمة في النقاش: سورية في حقبة احتواء الأزمات تأسيساً لحقبة النهوض والقيادة 2/ 4
ماذا عن الأزمات وارتباك الإدارة؟ الأخطاء والارتباكات في السياسات والإدارة الاقتصادية والاجتماعية
ميخائيل عوض
تقادم الإدارة والبنية والسياسات المرتبكة والارتجالية فاقمت الأزمات.
فما صارت عليه سورية اليوم من أزمات واختناقات يمكن ضبط مقدماته بخطايا السياسات المالية والاقتصادية والادارية التي سبقت انفجار الأزمة وتطورها إلى الحرب، والأخطر أنها استمرت أثنائها، فالمنطقي بدء تجلي نتائجها تفاعلاً مع أثار الحرب والتدمير الممنهج للبنى التحتية والقطاعات الإنتاجية واستهداف القطاع العام.
منها:
– الإدارة الاقتصادية والاجتماعية لم تتنبه لحجم المؤأمرة ولم تتحسب لطول سنوات الحرب ولخطر الاحتلالات والتدمير الواسع المستهدف، فعلى رغم اتضاح المخاطر، وامتلاك القيادة السياسية والعسكرية رؤية واستراتيجيات عبقرية واستباقية، ووضعت خططها ونجحت، فالقيادة المالية والاقتصادية الاجتماعية لم ترسم سياسات واستراتيجيات تتناسب مع الاستهدافات ولم تستثمر في المعطيات، وتفعيل القدرات الموفورة والكامنة، فتم التفريط بالاحتياطي من العملات الاجنبية عبر سياسات وإجراءات ارتجالية ومستهجنة كبيع الدولارات للعامة وعبر المزايدات للصيارفة والتجار، بينما كان يجب اعتماد إجراءات مناقضة لحماية الاحتياطات وتقنين الانفاق منها، وحصره بتأمين الحاجات الضرورية ومستلزمات المؤسسة العسكرية، وكمثلها من سياسات وإجراءات تنتمي إلى اقتصاديات الحرب لا التفريط بالمقدرات.
– كما في سوابق الحروب والأزمات الكبرى كانت تلجأ الدولة إلى خطط تعامل المناطق الإنتاجية والقطاعات الاقتصادية الحيوية، المعنية بتأمين الحاجات الأساسية كمناطق عسكرية ذات أهمية استراتيجية، فتؤمنها عسكرياً وتؤمن خطوط الاتصال والمواصلات معها، الأمر الذي غاب عن السياسات والخطط.
– أشارت تجارب الشعوب أن الاقتصاديات الوطنية المخططة والمحسوبة قدراتها وفرصها تستطيع التكيف مع الحروب، وتزيد من نسب النمو، لاسيما في المنتجات الغذائية والصناعية، والإنتاج الوطني، لتأمين المجتمعات بحاجاتها والمؤسسة العسكرية بلوازمها، وهذه أيضاً لم تلمس عناصرها ولا أعدت الخطط والدراسات لتحقيقها، وما جرى من إجراءات جاءت لاحقه واضطرارية وغالباً ارتجالية وتحت ضغط الحاجات.
– غابت أيضاً سياسات واستراتيجيات إعادة البناء والنهوض في المناطق التي تم تحريرها، وتأخرت كثيراً، وضلت الخطط التوجيهية رهينة المكاتب والجوارير وأعدت بمفاهيم وخطط لا تتوفر عناصرها الأساسية لا في البيئة والبنى ولا في ظروف الحرب، وكأن المخططون يعيشون في العالم الحاسوبي والافتراضي ويستعيرون من تجارب أخرى مخططاتهم وسياساتهم، وجرى معظمها بعقلية ومناهج الليبرالية والأوهام ولتخديم مشاريع الربحية، وكأن البلاد في البحبوحة ومقصد للسواح والمستثمرين. فعدم الشروع بوضع خطط واستراتيجيات إعادة البناء والنهوض العقلانية وبأبعاد وطنية اجتماعية عطّل وأخره إطلاق الدورة الاقتصادية “اقتصاد الحرب” وتطويرها، بالاعتماد على القدرات والمهارات والمواد المتوفرة وتكريس الاتجاه لتنمية الصناعات المحلية، وتعظيم الإنتاج الوطني واكتشاف مكامنه ومصادره ومواده المتوفرة، فضاعت سنوات وفرص وهجرت رؤوس أموال وكفاءات وخبرات من الصعب استعادتها أو إنتاج مثيلاتها أو استيرادها.
– بينما إدارت القيادة السياسية الحرب بأبعادها وفروعها المختلفة بتقانة مشهودة وبتخطيط ورؤية استراتيجية استباقية تحسبت لكل المخاطر، وعالجتها، وسدت الثغرات وعوضت النواقص، وترجمتها الدبلوماسية بإبداع والقيادة العسكرية وفروعها وأجهزتها بأفضل ما يمكن، تخلفت الإدارة الاقتصادية والاجتماعية عن المواكبة وأو التمثل بالإدارة والقيادة السياسية والعسكرية. فانعكس ذلك بسياسات ارتجالية واضطراب في القرارات والتوجهات واخفاقات في الأداء والتنفيذ.
– بينما الحروب الوطنية والدفاعية وحتى الأهلية شكلت لشعوب ودول وتجارب فرص ذهبية لإعادة هيكلة الدول وفروعها والبنى الاجتماعية والاقتصادية وعصرنتها، لانتزاع النصر في الحرب والتحول إلى قاطرات وقوى قائدة، فيما بعدها، غابت هذه الرؤية والإجراءات عن الدولة السورية، فاستمرت تعمل بذات الطرائق والآليات والهيكليات المتقادمة والبيروقراطية والمحشوة بالبطالة المقنّعة وشبكات الفساد والاستزلام والمحاباة والهدر، واستمر جهاز الدولة وموظفي القطاع العام ثقيلاً ومكلفاً وبإنتاجية متدنية جداً. (وهذه كانت ايجابية وموروثة من حقبة الاشتراكية والدولة الاجتماعية، ومسؤوليتها بتأمين الوظائف للخرجين والداخلين إلى سوق العمل كون العمل حق لكل طالبه، ولم تنجح الليبرالية بتصفيتها، لرفض الرئيس فصل وتفنيش عدد كبير من الموظفين وتجويع عائلاتهم).
شكلت كتلة الموظفين في القطاع العام أهم عنصر في حماية الدولة وسورية، والانحياز للاستقرار ورفض كتلة اجتماعية واسعة الانخراط بالمؤأمرة، ما أمن فرص وشروط النصر، إلا أن معطيات اليوم والتحولات الاجتماعية وتطور آليات الإدارة والأهم تراجع وانهيار القدرة الشرائية للرواتب وعجز الدولة والاقتصاد عن تأمين أكلاف الدولة والإدارة المثقلة بالأعداد الضخمة وغير المنتجة، وقد ازدادت فيها مناسيب المماطلة والتعطيل والفساد بمستوياته المختلفة لا سيما الصغير، وأصبحت الرشوة علنية وقاعدة معتمدة لضيق ذات الحال وتدهور قيمة الرواتب.
– على عكس ما كان يجب من إقصاء وتهميش قوى ورموز ومراكز الليبرالية الاقتصادية التي اخترقت الدولة والإدارات والمؤسسات، واستولت على عقل التخطيط والسياسات، وتمكنت من الإدارة الاقتصادية والاجتماعية والمالية، وتحكمت بها قبل الحرب وطيلة حقبة الدردرية وقيادتها لإعادة الهيكلة، بناء لوصفات صندوق النقد واجماع واشنطن، وقامت بتصفية القطاع العام والمخازين الاستراتيجية وفرطت بكثير من عناصر القوة الاقتصادية والاجتماعية، فقد استثمرت بالأزمة والحرب واستأثرت بالمشاريع والأموال وزادت من سيطرتها، وأكدت دورها في تمويل بعض الميليشيات والمجموعات الرديفة للمؤسسة العسكرية، فأمنت لنفسها موقعاً ومكاناً ونجحت في شفط خزائن الدولة، واستولت على الودائع الاحتياطية من العملات في المصارف الأوروبية جراء العقوبات بالاتفاق مع مافيات المصارف والتجارة الأوروبية، ولم يصل لسورية وللشعب سوى القليل منها، وذات الممارسة حصلت لخطوط الائتمان الايرانية التي ذهبت غالبيتها إلى خزائن الفاسدين، وإلى مشاريع وهمية أو غير ضرورية ولا مجدية. وامتصت أموال البنوك بعقود ديون بضمانات وهمية، وأنشأت شبكات التهرب الضريبي، ولم تدفع حقوق الدولة وعززت الاقتصاد الموازي، وقد تأخرت “لظروف الحرب وإدارتها وحرصاً على تماسك المجتمع والوحدة الوطنية” عمليات التطهير ومحاربة الفساد الكبير والمتوسط، وتحصيل حقوق الدولة والشعب، وعندما بدأت جاءت كخطوات اضطرارية لمواجهة انهيار العملة الوطنية، وليس في سياق خطة استراتيجية لإعادة هيكلة البنى الاقتصادية الاجتماعية، والتطوير الإداري على ما يجب في ظروف الحروب وتأسيساً لإعادة البناء والنهوض.
– على رغم الحاح ومتابعة الرئيس شخصيا والقصر لخطط التنمية الإدارية وللإصلاح الإداري، وعلى رغم توفر الامكانات المادية واللوجستية والكادر والخبرات، إلا أنها لم تؤتِ أكلها حتى الساعة فاستمر هدر الأموال والقدرات والطاقات والزمن الثمين.
هكذا إذن توفرت الأسباب والظروف والشروط الموضوعية للتفاعل مع نتائج الحرب والتدمير، وحرمان سورية من مناطق الثروة والثراء، لتغدو الحكومة عاجزة عن تلبية الحاجات والأموال، فتلوذ برفع الدعم وتحرير أسعار السلع والحاجات الضرورية والحياتية، ورفع أسعار الخدمات وتقنينها لتوفر في كلفتها وتقليل الخسائر فاتسعت نسب الفقر، وظهرت حالات نقد وهجوم على السياسات والإدارة، وتختمر حالات اعتراض وتمرد في بيئات حاضنة للدولة.
غداً، اقتراحات، وتوصيات للاستثمار بالوقت والظرف والقدرات للإحاطة بالأزمات والتأسيس لمرحلة النهوض والريادة.
…يتبع