بين مصر وتركيا تقاطعات وأزمات طاحنة واختلاف بالخيارات/ الخاتمة

ميخائيل عوض

يؤخذ على مصر في حقبة الجيش والسيسي، أنها لم تسقط كامب ديفيد، وما زالت تتعامل مع إسرائيل وأنشأت مصالح مشتركة في الغاز وتسييله وتصديره، وتحاصر غزة، بذريعة أنها إخوانية وبأن حماس سلمت القضية لقطر وتركيا ورفضت دوراً مصرياً خاصة في جولة 2014، عندما رفض مشعل الحضور إلى القاهرة لإدارة المفاوضات وأعلن تفويض قطر وتركيا، وأن مصر لم تتصالح مع سورية وتؤمنها وتمولها بالسلع والحاجات، ولم تجرؤ وتبادر إلى كسر قانون قيصر والعقوبات، وأنها لم تبادر للانفتاح على إيران ومحور المقاومة، ولم تنتقل لتكون فيه وبأمرته، وأنها ما زالت باردة في ليبيا وتونس والسودان وافريقيا، ومرتبكة بين الشرق والغرب، والأهم أنها لم تستعد لغة الضباط  الأحرار وناصر  في اعلهان وعصرنة المشروع القومي العربي”.

كما يسجل على السلطة تهميش وتفكيك منظمات المجتمع المدني وتطبيق الدستور والقوانين بحقها ومنع السفراء والمبعوثين من استباحة مصر. وأن الدولة والجيش اشترى الإعلام وأنشأ فضائياته وحاصر فضائيات ممولة من الخارج ومملوكة للمتمولين والاولغارشيا والهبيشة، وأن الدولة والأمن يقيدون الانشطة السياسية والتفلت الذي عاشته مصر وتعيشه البلدان الأخرى، وأنها قيدت الاولغارشيا والمتمولين الذين نهبوا القطاع العام وقد ساومتهم عبر القضاء وألزمتهم بدفع ما يترتب عليهم من ضرائب وتقديمات، كما يؤخذ عليها تغول مؤسسات الجيش الإنتاجية والاجتماعية والاقتصادية، والخدمية، وتتوفر كل شروط منافستها للقطاع الخاص وفي جميع قطاعات الاقتصاد.

هذه المأخذ واقعية ومعاشها ولمصر تقدير اخر وكما سلف يزعم منظري التجربة، أنها في حقبة التمكن والاستعداد لاستعادة مكانتها ودورها بهدوء كي لا يصيب تجربتها الجارية ما أصاب الناصرية وتجربة محمد علي، وبما يخص الإجراءات الإعلامية والحريات السياسية وتقييد منظمات المجتمع المدني الممولة من الأجهزة الغربية، وبتعظيم دور الجيش الاقتصادي أيضاً يبرره منظري الحقبة بأنها إجراءات لا بد منها لتأمين الاستقرار والسلامة وتطوير القطاعات الإنتاجية، ولجم الليبرالية التي نهبت وفتكت بمصر، وأجهض منظمات المجتمع المدني الممولة من الخارج والتي تنفذ أجندات الممولين مهمة لصيانة السلم والاستقرار وقطع أذرع اجهزة الاستخبارات التي تترصد مصر بالسوء، وكل ذلك لتأمين مصر بحاجتها وبالاعتماد على الذات.

وفي الواقع تعيش مصر أزمات اقتصادية واختناقات تموينية  وكهربية، وانهيار سعر الجنيه وتعويمه، وفقدان للعملات الصعبة وتراجع الاحتياطات مع تضخم الديون وخدماتها، ما يضطرها لاستجداء صندوق النقد وقبول املاءاته وشروطه.

إلا أن المعطيات المادية وطبيعة الحقبة الانتقالية التي تعيشها مصر ومكانة الجيش فيها، والجاري من تحولات هيكلية في توازن القوى الاقليمي والدولي وفي الصراع العربي الصهيوني والاشتباك الاطلسي مع أوراسيا وتحولات أفريقيا والخليج، وفي ظل أزمة عالمية وتوترات وارتفاع الأسعار وأسعار النقل والغذاء، والأزمة العالمية الجارية، ما يزيد من ضغط وحدة الأزمات، الأمر الذي دفع بالباحثين والكتاب إلى الربط بين الأزمة التركية والمصرية وتوقع نفس المسارات والخيارات.

في المعطيات يفترق النموذج التركية جدياً عن المصري وتختلف ظروف وبيئات وبنى وسياسات وقدرات البلدين والنظامين.

فبينما تركيا تعيش شيخوخة نظامها وربما جغرافيتها وقد انتجت ظاهرة الإسلام السياسي والتورط بالحروب واستعجلت أوهام العثمنة واستنزفت الأردوغانية حرفة الرقص على الحبال واللعب على التناقضات وقد ضاقت مساحات اللعب، وباعت أصول الدولة والقطاع العام، وتحولت بتركيا من القطاعات الإنتاجية إلى الاستهلاكية الممولة بالديون ومن كتلة المال الساخن، تبدو التجربة المصرية مع الجيش والسيسي مختلفة جوهريا وكأنها الضد النوعي، فمصر تنهي عصر اللبرلة وتمويل الاستهلاك بالديون، وتعيد صياغة قطاعاتها تركيزا على الإنتاجي على حساب الخدمي والاستهلاكي، وترفض التورط في النزعات وزرع القواعد خارجها، ولا تستعجل التورط في الأزمات ولا تلعب على الحبال وتستثمر بهدوء في الصراعات الاقليمية والدولية وتتجه شرقا بهدوء ورسوخ وتأسيس ثابت، وتتعامل مع الدائنين وصندوق النقد بحكمة ورزانة تأخذ لتحل مشكلتها الضاغطة وتعد ولا تلتزم بالشروط ولا تنفذها.

وبينما تركيا لا تملك قدرة المناورة السياسية وابتزاز الغرب والخليج لتأمينها تبدو بيد مصر عناصر قوة هائلة الاهمية قادرة على تأمينها من الانهيارات وغدرات الزمان، وعندما تقرر او تضغط حاجاتها، فمجرد تلويح مصر بالخروج عن كامب ديفيد ستنهمر عليها الهبات والاعطيات وتلزم الدول التي مازالت تدور بالفلك الامريكي الإسرائيلي بتأمينها، ولمصر قدرة بمجرد ان تلوح بكسر قيصر وتطوير وتظهير العلاقات المتينة مع سورية حتى تجد العروض الامريكية الاطلسية سخية وكذا الامر عندما تقرر وتعلن جهارا  الانتقال نهائيا الى الشرق ودخول البريكس وشنغهاي وادارة الظهر لأمريكا والاطلسي والعالم الأنكلو- ساكسوني.

وعلى نقيض تركيا وتجربتها الأردوغانية التي استنفذت مشروعياتها ودورها وغامرت بمكانة تركيا وإمكاناتها ومكانتها الجيو سياسية، تبدو مصر قد جددت شبابها وتعمل على تطوير مشروعها وتغير أشرعتها وتتأهب لدور متعاظم فقد اختبرت مع كامب ديفيد الأوهام والرهان على أميركا والأطلسي والتبعية لإسرائيل والانخراط بمشاريعها، واكتشفتها بالتجربة وبأم عين نتائجها الكارثية. وقررت عن سبق تصور وتصميم وبعد أن أسقطت الإخوانية وتوافقاتها مع أميركا وإسرائيل، ونهبتها وأفقرتها الليبرالية وصحرتها وتهددها أزمة المياه والغذاء. نجحت بإنتاج نخبتها من رحم أزماتها ومعاناتها وكوارث تبعيتها وقررت تغيير أشرعتها بدوافع تجربتها العملية.

التجربة الروسية مع بوتين والمؤسسة العسكرية ونخبتها المنتفضة على الليبرالية والأولغارشية هي الأقرب للنموذج المصري ومستقبل مصر وليس من فراغ أن ترشيح السيسي لرئاسة الجمهورية كان من منزل بوتين الشتوي، وكذا ربطة العنق المصنوعة من ذات القماش واللون والمصنع التي ارتداها الرجلان في القمة الأفريقية الروسية في موسكو، والتي توجها السيسي برفض زيارة تركيا التي كان أعلن عنها واستعجلها أردوغان. ومن بين المؤشرات ذات الدلالة الحاسمة أن روسيا قررت استبدال تركيا كمركز لتسويق القمح والنفط والمنتجات الروسية بمصر.

ومن اللافت اعتبار البعض أن ان ما تعانيه مصر هي عوارض ونتيجة للتغيرات الجوهرية الجارية فيها، بينما تضرب تركيا أزمات بنيوية وتصيب نظام استنفذ مشروعياته وكيان استنفذ وظائفه وجغرافيا سياسية وجيوبولتيك تم العبث بها من قبل العدالة والتنمية وتوهم أردوغان واستعجل استعادة عثمانية بائدة، فأدخل تركيا في حالة صراع حاد مع الجميع، فلا روسيا والصين وايران والعرب يأتمنونها ولا الأطلسي والأوروبي والأميركي يطمئنون لها، على عكس مصر الراسخة والثابتة والتي تعيد صياغة نفسها ودورها بهدوء وبلا نزاعات وحروب وأوهام.

وثروات ليبيا الهائلة التي يسعى إليها أردوغان، لا تبعد عن مصر سوى خطوة والسودان أقرب وذو أهمية، فحيث حاولت تركيا لترميم أزماتها وتمويل مشاريعها الوهمية وتنسحب  تستطيع مصر التقدم لإملاء الفراغ من دون منافسين بسلاسة وبهدوء وبلا خسائر وأكلاف…

انتهى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى