
الذين يزرعون التعصب والطائفية والانقسام
بقلم محمد حسن العرادي – البحرين
فجأة وبدون سابق إنذار بدأت مكونات المجتمع العربي تنكفئ على ذاتها وتراجعت إلى المربعات الطائفية والعرقية والإثنية الخاصة بها بحثاً عن الشعور بالأمن والطمأنينة والاستقرار، خاصة بعد أن ارتفع منسوب التشظي والاقتتال الأهلي الذي تزرعه “إسرائيل” وتغذيه أمريكا من خلال عمليات التفتيش والتقسيم والتشطير الذي تمارسه على كامل التراب العربي من أجل إضعاف جميع المكونات المجتمعية، ليصبح الكيان الصهيوني هو السيد الأقوى والأكثر استقراراً بين دول المنطقة، ومن أجل ذلك عمدت أمريكا إلى إخراج مصر من معادلة الصراع العربي الصهيوني باكراً وكبلتها باتفاقيات كامب ديفيد التطبيعية منذ العام 1979، ثم عمدت إلى تدمير العراق عبر الحصار والحروب وزرع الفتن الطائفية والمذهبية بين مكوناته المجتمعية، وها هي الأذرع الأمريكية النجسة من مختلف العصابات الإرهابية تطيح بالدولة السورية وتُحيلها إلى ساحة حربٍ أهلية يتم من خلالها تصفية الأقليات وإثارة العصبيات الجاهلية والقبلية والأحقاد التاريخية والمذهبية.
لقد أدى ذلك إلى عودة الفتن وانتشارها، وزادت الاصطفافات والتقسيمات الإثنية والعرقية والمذهبية، ثم نشطت الدعوات التكفيرية والحروب البينية والقتل على الهوية، الموغلة في الرجعية والتخلف، أطروحات لا تؤمن بالوطن والهويات الوطنية بقدر ما تتشنج للدفاع عن إنتماءاتها العرقية الضيقة وموروثها الديني والمذهبي الخاص، الذي لايرى من الكون سوى من ينتمون له ولامتداداته الفكرية والدينية والفلسفية، فهو لا يعتقد بحق الآخرين في العيش والحرية فضلاً عن حقهم في حياة كريمة، يتمتعون فيها بحقوق المواطنة العادلة والمتساوية مع أبناء المكونات التي ينتمي إليها.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة في ظل هذه الظروف الملتبسة، هل عادت للناس جاهليتهم، فأصبحوا مجموعة من العشائر والقبائل التي تتقاتل على الماء والكلأ، كما كانوا يفعلون أيام البداوة والتصحر والجاهلية، حين كانت الأمم تتحلق حول أماكن الرعي والأبار والعيون أو الأنهار العذبة من أجل ضمان البقاء والتكاثر، ولماذا تتصاعد بيننا هذه النغمات النشاز التي تكفر الآخر، وتدعو إلى محاصرته ومقاطعته بل ومحاربته وفنائه، لقد تم إستنفار التاريخ وإعادة كتابته وتزويره بعيون وقحة وبجحة، تُصر على بث الفرقة والانقسام والتشظي والعودة إلى شريعة الغاب القائمة على الغزو وشن الغارات العصبية.
ومن أجل إشعال فتيل المعارك المذهبية يتم توظيف الوسائل التكنولوجية والإعلامية بكل أشكالها وفي أبشع صورها من أجل تشتيت الشمل وتفريق المجتمعات العربية والاسلامية، وعلى هذا المنوال أنتجت إحدى المحطات الفضائية مسلسلاً تاريخياً مليئاً بالتزوير والتلفيق، ثم قامت بعرضه خلال شهر رمضان المبارك لهذا العام، وبدل أن تقوم هذه المحطة بتعزيز دعوات التسامح والتعايش والتوافق الوطني والتواصل الإنساني القائم على التراحم والمحبة، إنبرت إلى زرع الفتنة وتغذية الأحقاد التاريخية والترويج للحروب الفئوية والاقتتال بين المكونات المجتمعية بما يتماشى مع الأجواء المحتقنة التي تسود المنطقة وتتدحرج الى معارك طائفية ومذهبية طاحنة، همها تشطير المجتمع العربي والإسلامي بين من يؤيد ومن يعارض، بين من يصدق ومن يكذب الروايات التي صيغت عن عمد لتزرع الشقاق والفرقة والتشرذم في جسد الأمة المثخن بالجراحات التي تسببت فيها الصهيونية العالمية المرعية من قبل السيد الأمريكي المتهور العائد إلى عصر الكاوبوي والبندقية.
هذا المسلسل البائس الذي يخدم الأجندة الغربية، والذي صرف عليه من الأموال ما كان يمكن لها أن تساهم في سد جوع المحاصرين في قطاع غزة، الذين طحنتهم آلة الحرب الصهيوأمريكية المدمرة، ولاحقتهم بالمجازر وعمليات الإبادة الجماعية، فنسفت بيوتهم ودمرت مستشفياتهم ومدارسهم ومساجدهم وكنائسهم ، بل ومسحت مدنهم وقراهم في غزة والضفة الغربية ولبنان من على وجه الأرض، وبدل أن تعمل هذه الفضائية وغيرها من المحطات العربية والإسلامية على تضميد جراحات الشعب الفلسطيني، عمدت إلى تشجيع الاقتتال والتغالب بين مكونات المجتمعات العربية والاسلامية، وإشغالها بالمعارك الداخلية القائمة على بث سموم الفتنة وتغذية التعصب الأعمى الذي يطيح بكل مقومات ومنجزات الوطن.
ولنا أن نتساءل لماذا يتم إنتاج عمل تلفزيوني بهذه الضخامة والتكلفة المرتفعة جداً التي يقال إنها تجاوزت 100 مليون دولار لإنتاج 21 حلقة تافهة قائمة على التزوير والتحريض وتشجيع الخلافات والانقسامات في جسد الأمة المكلومة، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه لتجاوز خلافاتنا وتعزيز تضامننا وتواصلنا من أجل الوقوف مع الأشقاء المقهورين في قطاع غزة الذين لا يملكون حتى شربة ماء تسد عطشهم، بسبب الحصار الصهيوني المدعوم أميركياً.
لقد جاء هذا المسلسل الملهاة في هذا الوقت بالذات ليساهم في ترويج الفتنة والعصبية والجاهلية الأولى، وليشغل العالمين العربي والإسلامي ويُضلهم عن متابعة جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها آلة القتل الصهيونية، والا ما هي الفائدة والقيمة المضافة لاسترجاع حقبة تاريخية ملتبسة من التاريخ الإسلامي وبصورة مشوهة ومبتسرة، وماهو النفع الذي يمكن أن يعود على الأمة من إنتاج هذا المسلسل الضخم الباهض التكاليف في هذا الوقت بالذات، إلى الدرجة التي تصل فيها تكلفة كل حلقة تلفزيونية من هذا المسلسل (أقل من ساعة) أكثر من 4.5 مليون دولار ، أي أن كل دقيقة من هذا المسلسل كلفت حوالي 100 ألف دولار، لا لشيء سوى تغذية الخلافات المذهبية وزيادة التراشق بين مكونات المجتمعات العربية والاسلامية، وإشغالها بالعودة للخلافات التاريخية بدل الإهتمام بما يحدث أمامنا من إبادة عرقية وتصفيات لاخوتنا في فلسطين ولبنان على أيدي آلة الحرب الصهيوأميركية، فمتى نفيق من هذا السبات وهذه التخبطات غير المجدية ونعود لدورنا الريادي.