
تشكيل الحكومات والبدع الدستورية
لم يكد لبنان يخرج من مطب الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية عبر انتخاب رئيس جديد بعد شغورٍ امتد لأكثر من سنتين وشهرين، حتى وقع في مطبٍ آخر، هو مطب التشكيل الحكومي، إذ بعد مُضي ما ينوف عن ثلاثة أسابيع لم يتصاعد الدخان الأبيض من مدخنة «الصرح الحكومي» رغم التحديات الكبيرة التي تواجه لبنان في هذا الظرف والذي يستوجب الإسراع بإعادة الانتظام لعمل الدولة انطلاقها من مرفقها الأهم وهو سلطتها التنفيذية التي يديرها مجلس الوزراء.
فلبنان الذي لم يعد يحتمل ترف الوقت، نظراً لما عاناه ويعانيه من شلل عام طال كل مرافقه المتعلقة بإدارة الشأنين العام والخاص في ظل إدامة أزمته المتعددة العناوين التي ترهق كاهل الدولة كما كاهل كل مواطن من الشريحة الأوسع من الناس، هو اليوم واقع تحت تأثير تداعيات العدوان الصهيوني وما خلّفه من نتائج كارثية على مستوى البنى التحتية والتدمير الواسع للمرافق الحيوية والحياتية وما ترافق معه من وقع ثقيل للنزوح الواسع الذي لم تندمل حتى الآن ندوبه، في وقت لم يعد بالإمكان عودة كثيرين الى منازلهم وأماكن سكنهم لاستحالة مادية ناتجة عن مسح قراهم وأحياء واسعة من بلداتهم التي هي على خط الحدود مع فلسطين المحتلة. وهذا كافٍ بحدّ لأن يجعل من الذين يعتبرون أنفسهم معنيين بإعادة الحياة الى انتظامها العام، لأن يقلعوا عن أساليب المماطلة والمماحكة والتمترس وراء الحصص لو كانوا فعلياً حريصين على إراحة البلد وتمكينه من عودته الى الحياة الطبيعية. لكن يبدو وكما هو ثابت من تعاطيهم مع التشكيل الحكومي ان حفاظهم على امتيازاتهم في السلطة يتقدم علي أي شيء آخر، حتى لو كان على حساب ضرورات الأمن الوطني والحياتي وكل ما له صلة بتوفير الحدود الدنيا من شروط الاستقرار المجتمعي.
وإذا كانت المصدّات التي ترفع في وجه التشكيل الحكومي كثيرة ومنها ما يتعلق بتوزيع الحصص وما ينظر إليه من خلفية «الاعتبارات المعنوية» لبعض الأطراف، فإن بعضاً من التعقيدات التي يتم التلطّي ورائها هي تباين وجهات النظر حول تفسير العديد من النصوص الدستورية، حيث بدا ان هذه التفسيرات تتحكّم بها الخلفيات السياسية، علماً ان النص الدستوري واضح، وبالتالي لا اجتهاد في موضع النص. وهذا التجاوز للنص، أدّى الى إيجاد أعرافٍ، يريد لها البعض أن ترتقي حدّ قوة النص على قاعدة «المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً». والأخذ بهذه القاعدة أدّى الى إدخال مفاهيم جديدة على قاموس المفردات الدستورية. ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما يسمّى بالوزارات السيادية.
ان الوزارات السيادية هي بالأساس ليست غريبة عن مفردات القاموس الدستوري، لكن الغريب بالأمر أن يتم اسقاطها على التكوين الوزاري أياً كان شكل الدولة، بسيطة أو مركبة.
ففي الدول البسيطة، تكون الوزارات على اختلافها بذات المصاف في إدارتها للإدارات المعنية بها، ويكون البلد واقعاً تحت إدارة حكومة مركزية واحدة. وبالتالي تؤدي الوزارة وظيفتها في حدود القوانين والمراسيم التطبيقية الناظمة لعملها، وبالتالي لا يكون هناك تمييز بين وزارة وأخرى.
أما في الدول المركبة أي الدول الاتحادية، والتي تكون اما فدرالية أو كونفدرالية، فتديرها حكومة مركزية تعمل الى جانبها حكومات محلية. وميزة الحكومة المركزية عن الحكومات المحلية التي تتولى إدارة المرافق في نطاق ولاياتها، ان ثمة صلاحيات مكانية ووظيفية تتولاها حصراً، وتسمّى بالوزارات السيادية. ومن هذه الوزارات، الدفاع لتعلق الأمر بالأمن الوطني، والخارجية لتعلق الأمر بسياسة الدولة الخارجية، والمالية لتعلق الأمر بوحدة النقد وإدارة موارد الدولة العامة وتحديد أوجه انفاقها ومنها ما يتعلق بتخصيص الحكومات المحلية بما يقرر لها من الموازنة العامة للدولة، وأخيراً وزارة الداخلية لدورها في توفير مقتضيات الأمن الداخلي على مساحة الجغرافيا الوطنية، علماً ان البعض لا يدرج وزارة الداخلية ضمن الوزارات السيادية لكن الأصح انها واحدة من الوزارات الأربع.
من هنا ، فان تقسيم الوزارات في لبنان وهو دولة بسيطة، الى سيادية وغير سيادية، يقع في غير سياقه الدستوري، لا بل يرتقي حدّ البدعة الدستورية التي تضاف الى كثيرٍ من البدع الأخرى كالتي يروّج لها تارةً تحت عنوان تخصيص وزارات لطوائف وتارةً أخرى تحت عنوان حكومات تكنوقراط وحكومات سياسية، والبدعة هنا تكمن في إسقاط الطبيعة السياسية للمنصب الوزاري، إذ ان الوزير في الحكومة وان كان يمثل رأس الهرم الإداري في الوزارة المناطة به، إلّا ان دوره الأساسي هو تنفيذ سياسة الدولة في القطاع الذي يديره. وبالتالي فإن وظيفته هي سياسية بطبيعتها بغض النظر ان كان ينتمى الى أحد الأحزاب أو الكتل السياسية العاملة وبغض النظر ان كان صاحب اختصاص تقني أو لم يكن. وهذا واضح في نص الدستور (البند ١) من (المادة ٦٥) والتي تحدّد صلاحيات مجلس الوزراء، بانه فضلاً عن إناطة السلطة الإجرائية فيه، فإنه يضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات. كما نصت المادة ٦٦ من الدستور فقرة ٢ «يتولى الوزراء إدارة مصالح الدولة».
ومن البدع الأخرى التي يتمترس ورائها المماحكون، هي الميثاقية، وهنا يخلطون بين الميثاقية التي نص عليها الدستور وهي تمثيل الطوائف الروحية، وبين التمثيل للطوائف في المجلس النيابي. فالدستور الذي حدّد الميثاقية في (الفقرة «ي») من مقدمة الدستور، اعتبر ان لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. والعيش المشترك الذي قصده المشترع، هو التعايش بين الطوائف الروحية وتمثيلها بشكل عادل في المؤسسات الدستورية والإدارية وليس التعايش بين الأحزاب والكتل السياسية التي أفرزتها الانتخابات النيابية على أساس القانون الانتخابي الطائفي أو بين القوى السياسية خارج التمثيل النيابي. فالميثاقية تتحقق في السلطة التنفيذية سواء كان أعضاؤها منتمين الى أحزاب أو كتل ممثلة في المجلس أو لم يكونوا. علماً ان السلطة التشريعية قوامها وظيفتان أساسيتان، هما التشريع والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية إضافة الى صلاحية تفسير الدستور وتحوّلها الى هيئة ناخبة عند بلوغ الاستحقاق الرئاسي. وعليه، فإن الدعوة لتشكيل حكومة تكنوقراط، لا يعني ان الحكومة لا تمارس سلطة سياسية، بل هذه من صلب طبيعتها الأساسية، وإذا كان الوزير خبيراً فنياً في اختصاصه لجهة الوزارة التي يديرها فهذا «زيت على زيتون».
كما أنه من البدع الدستورية، الخلط دائماً، بين الأثر الناشئ لمرسوم تشكيل الحكومة والأثر الإعلاني.
فتشكيل الحكومة مناط بالرئيس المكلف عملاً بنص (المادة ٦٤ فقرتها الثانية)، وبالتالي فإن الأثر الناشئ يتحقق من خلال تأليف الرئيس المكلف للحكومة قبل إصدار مرسوم تشكيلها وإعلانها للملأ. وأما الأثر الإعلاني فيتحقق من خلال إقدام رئيس الجمهورية على إصدار مرسوم التشكيل ممهوراً بتوقيعه مع رئيس الحكومة.
ان تجاوز هذه البدع الدستورية، من شأنه أن يزيل كثيراً من العقبات ويحول دون وقوع الحكم والحكومة في مطبات هما بغنى عنهما، وان من يبدي تحفّظاً على شكل الحكومة أو على بيانها الوزاري، فالدستور منحه حق الرقابة على أعمالها، وحتى اسقاطها عبر سحب الثقة عنها مجتمعة أو عن أحد أعضائها.
من هنا فإن النظام اللبناني الذي تحكمه قواعد الفصل بين السلطات، لا تستقيم حياته الدستورية، إلّا إذا طبّق الدستور تطبيقاً منسجماً مع نصوصه والإقلاع عن التفسيرات السياسية للنصوص الدستورية والتمترس وراء بدع دستورية أقل ما يقال فيها انها لا تشكّل خروجاً عن ضوابط النص وحسب، وإنما تلحق أفدح الأضرار بمصالح العام والخاص.
إذا كان الدستور حفظ لكل سلطة دورها وحدّد آليات تكوينها، فإن على الرئيس المكلف إذا ما بقيت عملية وضع العصي في دواليب التكليف قائمة، تشكيل الحكومة وفق الصلاحيات الدستورية الممنوحة له والذهاب بها الى المجلس النيابي، فإما أن تمنح الثقة واما أن تحجب عنها، وهذه هي أصول اللعبة الدستورية.
اللواء