قراءة عاشقة لأسئلة حارقة.. الكتابة والفن وخطاب الأزمة 

بقلم: نادية الصبار

لا يفوتني قبل خوض غمار هذه المداخلة التي عنونتها ب: “قراءة عاشقة لأسئلة حارقة.. الكتابة والفن وخطاب الأزمة”، والتي هي بالأصل وكما يدل عليها عنوانها، والعنوان عتبة والعتبة دالة، أن أشير حيث وجبت الإشارة، إلى أنها قراءة عاشقة أكثر منها متخصصة، وهي بمثابة “فيزيون ” كما الموسيقى.. حاولت من خلالها ان أزواج بين سؤال الكتابة وسؤال الفن.. وخطاب الأزمة، لما لا؟! لطالما هما معا، بالأصل، إبداع إنساني!

الفن المعاصر يا سادة! حديث الساعة! وموضوع نقد وفكر وفلسفة وكتابة.. فالسؤال عن ماهية الفن المعاصر سؤال شائك مثلما أسئلة أخرى في مجالات أخرى، لها حساسيتها الخاصة، لأنه مفروض فيها أن تصور العالم من أجل عالم أفضل.. ولذلك؛ فهذه المجالات ليست بمستثناة من هذه الأسئلة الوجودية الحارقة والحارقة جدا.

وكما أشرت بداية على أنها قراءة عاشقة غير متخصصة، تنطلق من شغف عميق بالكتابة والفن. ومع ذلك، فاختيار هذا العنوان لم يكن اختياراً عبثياً. فالعنوان نفسه يحمل في طياته تلك العلاقة المعقدة بين الكتابة والفن، بين الإبداع والواقع، وبين التساؤل والأزمة. هي قراءة عاشقة لأنها تنبع من وجدان كاتبة تتلمّس طريقها وسط تناقضات العصر. وهي أسئلة حارقة لأنها لا تنفك تطاردنا جميعاً: لماذا نكتب؟ لماذا نبدع؟ لماذا نرسم العالم؟ وهل للكتابة عموماً والفن خصوصاً؛ القدرة على مواجهة الأزمات؟!

إياك أعني واسمعي يا جارة.. لماذا نكتب ولماذا نرسم العالم؟!

كتبتُ في إحدى مقالاتي التي أثارت اهتماماً واسعاً بعنوان “لماذا أكتب” والتي تداولتها العديد من المنابر الوطنية والعربية على حد سواء.. “لعلي أكتب للتنفيس؛ فكثر هم يكتبون لأن الكتابة ملاذهم الأول والأخير والملجأ الذي يقصدونه للهروب من واقع مليء بالمتناقضات لعالم المثل والممكنات.. فالكتابة رئتي الثانية التي أطرح من خلالها ثاني “اوكسيد الكاربون” الذي يفسد الحياة، بل إنه “الادرينالين” الذي يساعدني على البقاء والاستمرار والتعايش مع كل هذه المتناقضات.” مقتطف..

فالكتابة إذا ليست رفاه؛ بل عصيان لهذا الواقع، وصياغة جديدة للممكنات.

ومع ذلك، “فالكتابة ليست دائماً بريئة؛”فإنها قد تزيغ إذا ما استحوذ على صاحبها غرور الإحساس بصفة الكاتب، فتصير الكتابة لصيقة بصاحبها في نظر من يكتب وفي نظر الآخرين، فتصطاده شباك الشهرة قل حجمها أو صغر..” مقتطف.

وكأني بذلك “أعني واسمعي يا جارة”، فالكتابة عموما والفن خصوصا هي فعل مقاومة مستمر؛ مقاومة للزمن، للصمت، وللحالة السائدة والتي سمتها التراجع القيمي والفكري. وفي ظل هذا السياق، لا يمكن البتة، للكاتب أو الفنان أو المبدع عموما، أن يتجاهل مسؤوليته.

إن الكلمة هي فعل تعبيري تغييري بامتياز، لكنها أيضاً ساحة معركة يخوضها الكاتب ضد الإغراءات السطحية التي تجعل من الكلمة وسيلة للتزييف بدل الإبداع.

وكذلك عندما يمسك الفنان بريشته، يتحول إلى أكثر من مجرد خالقٍ للصور، بل يصبح وسيطاً يعبر عن رؤيته للعالم بكل تعقيداته وأبعاده. ريشة الفنان ليست مجرد أداة للخلق، بل وسيلة للتعبير عن الأفكار العميقة والمشاعر الإنسانية. فكما قال الرسام الفرنسي بول سيزان: “الطبيعة هي عالمي، وكل ما حولي هو جزء من اللوحة”. من خلال هذا التصور، تعكس ريشته صراعاً بين الظلال والنور، بين الجمال والفوضى، وبين الأمل والخذلان.

علاوة على ذلك، يعزز هذا التعبير فلسفة عميقة تعكس نظرة العالم من خلال رؤى المفكرين مثل جان بول سارتر الذي قال: “الوجود مسبقٌ للماهية”، فالفن يتيح فرصة للتفكير في الوجود البشري من خلال إبداع الفنان وابتكاره.

وأما جوزيف أليارد فعبر عن دور الفن في كشف عميق للوجود الإنساني وتسليط الضوء على القضايا الإنسانية العميقة: “الفن هو أعمق حقيقة للإنسانية، وهو وسيلة يعبر بها الإنسان عن وجوده والبحث عن المعنى.”

فلا معنى إذا للفنون دون معاني عميقة ولا معنى للإبداع إن لم يكن فلسفيا ومدعاة للتأمل والتفكير في الحياة من حولنا.

فسؤال لماذا نكتب؟ لملذا نرسم؟ لماذا نبدع؟ أسئلة مشروعة والإجابة عنها أو محاولة الإجابة عنها ضرورة ملحة!

الإبداع.. بين الإخلاص والتمرد

في نص أدبي سابق نشرته تحت عنوان “لست إباحية.. بل بائحة”، عالجت فيه قضية معقدة تتعلق بحدود البوح والكتابة، اللذان يحملان أبعادًا تعبيرية وبين النظرة الاجتماعية أو الأخلاقية التي قد تُحاصر الكاتب. يقول المقتطف: “نحن بحاجة أنا وأنت لمساحة بوح، فلست إباحية أنا بل بائحة!… وشتان بين الإباحية والبوح، علي أن أكون عاهرة من أجل سيدات العالم وأن أتحدث في الممنوع، علي أن أقرع الطبول… كفانا صمتا!… كفانا نعيش دور المقموع!.”

 

وأبرزت من خلال هذا النص الأدبي فكرة “الغواية الأدبية” والإخلاص في الكتابة هل هو إخلاص في نقل الوقائع المعاشة أم هو محاولة خلاص.. المقتطف: “فأنا لم أترجم يا عزيزتي الموقرة وغير العاهرة قصتك بإخلاص، ليس لأني لست مخلصة والكتابة عدوان… بل؛ لأنها وسيلة لترجمة، ليس “قصتك”، بل لترجمة قناعاتنا ككتاب من المفروض فيهم الإخلاص، ليس للقصص كما عاشوها أو سمعوها. بل؛ الإخلاص حد النسك لأرق  شديد رافقنا منذ الغواية الأولى، ومنذ ولادة “ولادة” التي تجيد ملاعبة الحروف فينا.” انتهى المقتطف.

حيث صورت فعل الكتابة كرحلة في عالم المتناقضات، واستخدمت مصطلحات من قبيل “العهر” و”البوح” و”العدوان” و”الغواية “.. لأضع المتلقي أمام تحدٍ لفهم المعاني العميقة التي أريد إيصالها. فالعهر هنا ليس بمعناه التقليدي، بل هو تجرد من القيود التقليدية، وكسر للحواجز النفسية والاجتماعية وكل اللاءات التي تعيق بلوغ الحرية الإبداعية. “أن أكتب بحرية ودون قيد.. لأن الكتابة ملاذي الأخير الذي أسكن إليه كلما أحسست بالضيق بين دهاليز سجون لا أبرحها إلا حين أكتب”. هذه العبارة تلخص الفلسفة التي قام عليها النص الأدبي، حيث تعتبر الكتابة فعل ثوري لتحرير الذات والمجتمع.

 

المشترك والمفترق بين الكتابة والفن التشكيلي

تشترك الكتابة والأدب مع الفن التشكيلي في كونهما أداتين للتعبير الإبداعي عن النفس البشرية، إذ يسعى كل منهما إلى ترجمة العواطف والأفكار إلى أعمال فنية تحمل رسائل عميقة. فكلاهما يعتمد على الخيال كعنصر جوهري في بناء عوالم جديدة، لكن بأساليب وأدوات مختلفة. ففي حين يَسرد الكاتب بالكلمات مشاهد نابضة بالحياة ويخلق سردًا زمنيًا متشابكًا، يلتقط الفنان التشكيلي اللحظة في صورة صامتة مليئة بالتفاصيل، قادرة على نقل آلاف المعاني دون كلمات.

 

تاريخياً، كان التلاقح بين الأدب والفن التشكيلي سمة بارزة في إبداعات الكثير من الأدباء والفنانين. على سبيل المثال، ألهمت روايات “دون كيخوته” لسرفانتس العديد من الرسامين لرسم مشاهد حية تجسد الصراع الداخلي والخارجي للشخصيات. في المقابل، اعتمد الكاتب الألماني غوته على لوحات عصر النهضة لكتابة روايته “آلام فرتر”، حيث استلهم من جماليات اللوحات لتعميق وصف مشاعره وأحداثه. كما أن التعاون المباشر بين الأدباء والفنانين أفرز أعمالًا استثنائية، مثل الكتب المصورة التي جمعت بين قصائد ويليام بليك ورسوماته، أو كتاب “أزهار الشر” لبودلير الذي أثرت رسوم الفنان غوستاف دوريه في ترسيخ معانيه العميقة.

 

هذا التفاعل لا يتوقف عند الماضي، بل يمتد إلى الحاضر حيث تتعانق الفنون في مشاريع مشتركة تجمع بين النص والصورة. على سبيل المثال، هناك معارض فنية حديثة تستلهم لوحاتها من روايات كلاسيكية، مثل لوحات معاصرة تستوحي مشاهدها من أعمال فرانز كافكا أو فيرجينيا وولف، لتُعيد تقديم النصوص الأدبية بزاوية بصرية مختلفة. في الوقت ذاته، تظهر روايات تدمج وصف اللوحات الفنية في سردها، مثل أعمال دان براون التي تعتمد على الفن كجزء من البناء السردي.

 

هذا التلاقي بين الكتابة والفن التشكيلي لا يقتصر على تبادل الإلهام، بل هو انعكاس لرحلة الإنسان في البحث عن طرق مبتكرة لفهم ذاته وعالمه. إنه حوار مفتوح بين الكلمة والصورة، يُثري كل منهما الآخر ويكشف عن عمق إبداع الإنسان وتنوع وسائله التعبيرية. من خلال هذا التلاقح، تتجسد فكرة أن الفنون بمختلف أشكالها ليست مجرد وسائل ترفيهية، بل لغة عالمية تستوعب تجارب الإنسان وأحاسيسه، وتُقدمها برؤى جديدة ومُلهمة.

 

*أزمة الخطاب أم خطاب الأزمة؟!

 

وعودة إلى بدء؛ بعد إغلاق هذا القوس العريض جداً والذي أتمناه أن لا يغلق حتى يستحث فينا العمل الدؤوب والصادق والهادف… من أجل إيصال أفكار معينة نؤمن بها والتي قد تحمل دوافع سياسية أو فلسفية؛ ودوافع لنقل في المجمل والمطلق نابعة عن هموم إنسانية.

 

وفيما يخص سؤال الفن، فهل يعني البتة أنه فن حداثي أم ما بعد الحداثي، هل هو فن ثائر غائي، أم أنه فن مهادن خاضع وربما خادع؛ أم هو حركة تتجاوز القوالب القديمة والكلاسيكية من أجل مواكبة روح عصر مبني فيما يبنى عليه؛ على مفاهيم جديدة كمفهوم السوق والربح والصناعة الفنية والثقافية، والخضوع لناموس ما يتطلبه العصر وما تطلبه الجهات الداعمة للحركة الفنية إن بالداخل أو الخارج.

 

فإذا كان الشق الأول أو السؤال الأول، سؤال الفن المعاصر صعب لا محالة، فكيف إذا ما تمت مزاوجته ومصاحبته بخطاب الأزمة. والله، أخالني أمام برزخين لا يبغيان.. فن معاصر يخضع لمعايير السوق والتسويق والإشهار والدعم وسياسة ما تطلبه الجهات الداعمة وفن الرسالة / أو رسالة الفن وفن الخطاب/ أو خطاب الفن وسؤال الفن… وبالتالي تكون المصاحبة والمزاوجة بين الفن المعاصر وخطاب الأزمة، لنقل شائكة.. وهنا نتساءل مرة أخرى عن أي خطاب نتحدث؟! فهل نتحدث عن خطاب حقيقي بكل ما تعنيه الكلمة ودلالاتها في قواميس اللغة ومعاجم الاصطلاح؟! خطاب هادف يسدد ضرباته كسهام مسننة تصيب ولا تخطأ.. خطاب يعلو ولا يعلى عليه، الغلبة فيه للرسالة وليس للرغيف، بين قوسين… رسالة الفن المشفرة الموجهة للعالم، رسالة للسائد مثلما المسود، خطاب يصف ويشف، خطاب يعالج، يناقش، يدافع وينافح، خطاب يصيب الهدف، ويصل المبتغى والمنتهى، ويدخل أصحابه وأعمالهم التاريخ من أوسع الأبواب أم هم ومساعيهم إلى الجحيم وإلى مزبلة التاريخ… وهنا لست أعمم ولا أقصد الفنون الجميلة وحدها.. وعذرا على سوق هذه الكلمة النابية الساقطة والمستفزة… فهذه “الحاويات” و”سلال القمامة” أو لنقل “سلال المهملات والمتلاشيات” والتي ستتم أرشفتها ليس في العليين بل أسفل سافلين، كذلك! ستستوعب أعمال أخرى وأصحابها في مجالات إنسانية مشابهة أو مرادفة، كان يفترض فيها القيمة والرمز والروح التواقة للتغيير.. أنا وجدت!

من خلال هذه القراءة العاشقة التي جمعت بين سؤال الكتابة والفن وخطاب الأزمة، يظهر أن الإبداع، سواء تجسد في نص أدبي أو عمل تشكيلي، لا يمكن أن يُختزل في كونه ترفاً أو حالة عابرة. إنه فعل مقاومة ووسيلة تحرر تعيد تشكيل الواقع وترسم ملامح جديدة لعوالم الممكن. فالكتابة ليست مجرد كلمات وأحرف.. مثلما الفن ليس مجرد ألوان وأشكال أو مجسمات، بل كلاهما أدوات تُترجم بها الذات المبدعة همومها وأحلامها في مواجهة الأزمات.

 

فالإبداع إذا، يمثل صراعاً بين الإخلاص للواقع والتمرد عليه، ورحلة داخل عوالم متناقضة حيث تبحث الذات المبدعة عن الخلاص من قيود الواقع إلى عالم أرحب. وهكذا يمكن اعتبار العلاقة بين الكتابة والفن التشكيلي علاقة تكامل وليست أبدا علاقة تضاد، فكلاهما انعكاس لرغبة الإنسان في فهم ذاته والعالم من حوله. وعبر هذا التلاقح، قد تنشأ أعمال تستلهم من الواقع وتعيد تقديمه بطرق مبتكرة، قد تمزج بين قوة الكلمة وعبق اللون. مما يعزز فكرة أن الفنون بمختلف أشكالها ليست مجرد وسائل ترفيهية، بل لغة عالمية تنقل رسائل عميقة وتساهم في التغيير.

 

لكن، يبقى السؤال قائما.. ما هو دور الفن والكتابة في زمن تُختزل فيه القيم في معايير السوق والتسليع؟ هنا يكمن التحدي الحقيقي للإبداع المعاصر، الذي يجد نفسه عالقاً بين رسالة هادفة تسعى للتغيير وقوى ضاغطة تسعى للربح والسيطرة. الإجابة على هذا السؤال ليست نهائية، لكنها تبدأ بالتزام المبدعين برسالتهم المتمثلة في مقاومة التراجع القيمي والفكري ومحاربة التشظي والرداءة والتسفيه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى