مبادرة أميركية تسابق التهويل بغزوٍ برّي

بدا من قتامة أقدار لبنان، أن يبدو التاريخ كأنه يستنسخ نفسه تكراراً في الساعات الأخيرة، مستعيداً مقارنة منقحة، غير مضمونة النتائج، بين تجربة نهاية حرب تموز (يوليو) عام 2006 وانفجار طلائع حرب أيلول (سبتمبر) 2024. ومع أن اليوم الحربي الثالث منذ بدء إعصار الهجمات

والغارات الجوية الإسرائيلية على العديد من المناطق اللبنانية إتسم بعنف جنوني وحصد حصيلة دموية إضافية مخيفة، فإن ما ميّزه برز في غليان السباق المحتدم بين ما وصف بأنه “تسوية أميركية” اندفعت بها الولايات المتحدة وخطر اشتعال الحرب الشاملة والاندفاع الإسرائيلي العملاني نحو عملية برية في جنوب لبنان.

ولعلّ التطور اللافت الذي أملى المقارنة بين هذا التطور وما حصل عشية صدور القرار 1701 في آب (أغسطس) 2006 هو الفريق اللبناني الذي اتكأ إليه التحرك الأميركي في الساعات الأخيرة تمثل برئيس مجلس النواب نبيه بري بصفتيه الرسمية وممثلاً للثنائي الشيعي بالتنسيق مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. وبدا واضحاً ان بري تولى نقل اتجاهات “متقدمة” من “حزب الله” في شأن تسوية ما على غرار ما حصل عشية صدور القرار 1701، لكن ذلك ظل طيّ الكتمان الشديد في انتظار المساعي المتلاحقة في أروقة نيويورك قبيل انعقاد جلسة لمجلس الأمن الدولي حول الوضع المتفجّر في لبنان فجر اليوم بطلب من فرنسا. وفيما كانت هذه المساعي في ذروتها كان التفجّر الحربي يتصاعد على نحو جنوني بلغت معه الحصيلة الدامية الرسمية كما أعلنها وزير الصحة فراس الأبيض 51 شهيداً و223 جريحاً في الغارات الإسرائيلية أمس.

ووسط السياق المتفجر بين المساعي الديبلوماسية والغارات المدمّرة، تأكد أن إدارة الرئيس جو بايدن تعمل على مبادرة ديبلوماسية جديدة لوقف القتال في لبنان. وقابل هذه التطورات من الجانب اللبناني تاكيد رئيس مجلس النواب نبيه بري إجراء “مساعٍ جدية مع أطراف دولية بينها الولايات المتحدة للجم التصعيد الإسرائيلي الأخير على لبنان”، موضحاً أن الساعات الـ24 المقبلة ستكون حاسمة في نجاح هذه المساعي أو فشلها. لكن بري الذي يتولى تنسيق الموقف بين “حزب الله” والجانب الأميركي من جهة، وميقاتي الموجود في نيويورك من جهة ثانية، نفى لـ”النهار” أن يكون هناك أي فصل بين جبهة لبنان وجبهة غزة، وأكد “أن المسعى لا يفصل بين المسارين”. وقال إن ثمة حركة سياسية وديبلوماسية كثيفة تجري حالياً بين لبنان ونيويورك بالتنسيق مع رئيس الحكومة الموجود هناك، من أجل العمل على خفض التصعيد في لبنان.

وكشف أن “هذه الاتصالات تأتي استكمالاً لما كان بدأ مع الجانبين الفرنسي والأميركي، لا سيما خلال المحادثات الأخيرة مع الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين في بيروت”، متوقعاً أن تتبلور نتائج هذه الاتصالات خلال الجلسة الطارئة لمجلس الأمن بناء على طلب فرنسا. وإذ رفض بري الكشف عن مضمون الموقف وما إذا كان على شكل قرار يصدر عن مجلس الأمن يلحظ وقفاً للنار وتطبيق القرار 1701، اكتفى بالإشارة إلى “أن ما سيصدر سيرسم سكة الحل”. وعلمت “النهار” أن حجر الارتكاز في الاتجاهات التي يتولى بري إبلاغها إلى الجهات المعنية هو توافق الأطراف على تنفيذ القرار 1701 في مرحلته الأولى. وفي هذا الإطار، اجتمع الرئيس نجيب ميقاتي في نيويورك بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين في حضور وزير الخارجية عبد الله بو حبيب “وتم البحث في المساعي الجارية لوقف العدوان الإسرائيلي المتواصل على لبنان والتوصل إلى حل ينهي الصراع المستمر منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي” . وكان ميقاتي التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “وشكره على دعم فرنسا المستمر للبنان وللجهود التي تبذلها لوقف الاعتداءات الإسرائيلية والتوصل إلى حل شامل للوضع في المنطقة”.

ونقل موقع “أكسيوس” عن مسؤولين أميركيين ومسؤول إسرائيلي أن إدارة بايدن تعمل على مبادرة ديبلوماسية جديدة لوقف القتال في لبنان وتعدّ خطة لوقف نار موقت بين إسرائيل و”حزب الله”. وناقشت أميركا على مدار يومين خطة التهدئة في لبنان مع دول عربية وفرنسا وإسرائيل. وأشار إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أعطى الضوء الأخضر لمناقشة مبادرة التهدئة لافتاً الى أن رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” يحيى السّنوار قد يقبل بوقف للنار إذا تمت التهدئة مع “حزب الله”. ونقلت “رويترز” عن مسؤول لبناني أن “حزب الله” منفتح على أي تسوية بشأن لبنان وغزة. ونقلت عن مصادر مطلعة أن الاتفاق الذي تسعى إليه واشنطن قد يشمل إطلاق سراح رهائن من غزة. ولكن وسائل إعلام إسرائيلية أفادت مساء أن فرص نجاح المبادرة الأميركية ضئيلة وفق التقديرات الإسرائيلية. كما أن تصريحاً لنتنياهو لم يوحِ بأي اتجاهات مرنة إذ قال: “لا يمكنني إعطاء تفاصيل بشأن ما نفعله لكن يمكنني القول إننا مصممون على إعادة مواطني الشمال إلى ديارهم”، معتبراً أن “حزب الله تلقى ضربات لم يتصورها”.

اليوم الثالث

غير أن هذه التطورات الديبلوماسية لم تحجب الجنون الحربي المتمادي الذي طبع وتيرة اليوم الثالث إذ رفعت فيه إسرائيل وتيرة استهدافاتها واستدعت عشرة آلاف جندي من الاحتياط وكثّفت غاراتها متسببة باستشهاد العشرات من اللبنانيين. وهدّد رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي بـ”أننا نستعد لعملية برية عند الحدود الشمالية مع لبنان”، وقال مخاطباً الجنود من حدود لبنان: “ستدخلون لبنان وستشتبكون مع حزب الله” لافتاً إلى أن “الغارات المتواصلة طوال اليوم (أمس) تمهّد للمناورة البرية”.

وشنّ الطيران الحربي الإسرائيلي أوسع جولاته من الغارات التي فاق تعدادها الـ400 غارة وطلعة وتوغلت في العمق باستهداف فتوح كسروان على بلدة المعيصرة للمرة الأولى منذ بداية الحرب، ما ادى إلى سقوط 3 قتلى و9 جرحى. وتضاربت المعلومات عن هوية المستهدف في الغارة، ففي حين أفادت المعلومات أن المنزل المستهدف يعود للشيخ محمد عمرو مسؤول جبل لبنان والشمال في “حزب الله”، أشارت معلومات أخرى إلى أن عمرو لم يكن موجودًا في المنزل المستهدف، وهو أصلًا ليس صاحب المنزل بل يعود إلى إبن شقيقه. ولاحقاً أغار الطيران الحربي الإسرائيلي، على بلدتي رأس أسطا- طريق عنايا وبشتليدا في قضاء جبيل.

وتمثل التطور الأبرز فجراً بتوجيه “حزب الله” صاروخاً باليستياً الى مقر قيادة الاستخبارات الإسرائيلية في ضواحي تل أبيب حيث أسقطته الدفاعات الإسرائيلية. وأفاد “حزب الله” أنه أطلق صاروخاً باليستيا من نوع “قادر- 1” مستهدفاً مقر قيادة الموساد في ضواحي تل أبيب وهو المسؤول عن اغتيال القادة وعن تفجير البايجرز وأجهزة اللاسلكي. كما أعلن الحزب في سلسلة بيانات استهداف مستوطنة حتسور وقاعدة دادو بعشرات ‏الصواريخ ومستوطنتي ساعر وكريات موتسكين ‏بصليات من الصواريخ.‏ وقصف للمرة الثانية كريات ‏موتسكين بصليات من صواريخ فادي 1 وكذلك مصنع المواد المتفجرة في منطقة زخرون بصلية من صواريخ فادي 3.

وشنّ الطيران الحربي الإسرائيلي سلسلة غارات عنيفة على منطقة البقاع، استهدفت بلدات النبي شيت، الخضر، نحلة، تعلبايا، الهرمل، اللبوة، بالاضافة الى بلدة التويتي في ضهور زحلة. وأغار أيضاً على مقام النبي اسماعيل في بريتال ودورس في قضاء بعلبك وسحمر في البقاع الغربي. وأما في الجنوب، فغطت الغارات معظم البلدات والقرى وتركزت بشكل عنيف على النبطية.

وأفاد مركز عمليات طوارئ الصحة العامة أن غارة إسرائيلية على بلدة عين قانا أدت إلى مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة ثلاثة عشر بجروح. كما أدّت غارة على بلدة جون- قضاء الشوف في حصيلة أولية إلى استشهاد أربعة أشخاص وإصابة سبعة بجروح. وأسفرت الغارة على بلدة بنت جبيل جنوب لبنان إلى استشهاد أربعة أشخاص. أما الغارة على بلدة تبنين جنوب لبنان، فأدت إلى استشهاد شخصين وإصابة سبعة وعشرين شخصاً بجروح. وأدّت الغارات المتتالية على بلدات في بعلبك الهرمل إلى استشهاد سبعة أشخاص وإصابة ثمانية وثلاثين شخصا بجروح. وأصيب شخصان بجروح في مارون الراس وجرح شخص في عيناتا.

المعارضة

في سياق متصل علمت “النهار” أن الاتصالات تكثفت على جبهة المعارضة بعد تسارع الأحداث منذ يوم الاثنين الماضي، وبعد اتصال مطوّل بين رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل ورئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، عقد الجميل عدداً من الاجتماعات مع اطراف من المعارضة وتواصل هاتفياً مع الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط مع توجّه لزيارة وفد من الكتائب الى عين التينة للقاء الرئيس بري.

وعلى عكس ما أشيع في السابق عن اقفال مناطق، أو عدم فتح مؤسسات أمام النازحين، فإن العمل جارٍ من جانب القوى المعارضة في مناطقها للمساعدة واحتضان المهجرين، من دون فتح المجال لحضور أمني لفريق معروف تحت ستار التنظيم. ويعقد الجميّل مساء اليوم الخميس مؤتمراً صحافياً يشرح فيه نظرة الكتائب لهذه الاحداث المتسارعة. وبحسب مصادر كتائبية فإن الجميل أراد الاضاءة على حجم الضرر الذي خلفته الحرب وليس فقط على فئة معينة، إنما على اللبنانيين جميعاً، وسيتضمن المؤتمر تحميلاً للمسؤوليات لما آلت إليه الأمور، مع طرح افكار يمكن أن تشكّل حلّا ينتشل البلد من مسلسل الموت والدمار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى