حجر المحبة ركيزة العمارة الصّوفية للدكتورة إلهام الشّعراني
حجر المحبة ركيزة العمارة الصّوفية
للدكتورة إلهام الشّعراني
ماجدة داغر
“خلفَ بابٍ مُوارِبٍ، وقفتُ منتحلةً زمناً من زمنٍ آخر، من ضوءٍ آخر ينسلُّ من شقّ الباب. ضوءاً صرتُ، لأتمكّنَ من الولوج. البابُ/الغلاف ظلّ متربّصاً بحواسي. باباً صرتُ وعدتُ إلى الغابة. هناك، حيث يسري الخشبُ في شرايين الغابة، والموسيقى في مسامّ التراب. هناك، في الكتاب، لم يعد وحيداً القصب، صرتُ قصباً أشدو مواويل البنفسج والمطر.”
هكذا كانت مقدمةُ قراءتي لكتاب “وحيدًا يشدو القصب، مواويلَ البنفسج والمطر” للشاعر والكاتب والمترجم الصديق العزيز الأستاذ جورج غنيمة، ذات لقاءٍ وتوقيع في صور العظيمة حول وليمته الشّعرية.
وهكذا كانت الخاتمة: “وها أنا الآن أعود من طقوسه ومعجمياته ومحطاته وبديعِ وليمته. ها أنا أعود ضوءاً مضمراً خلف الباب الموارِب، منتحلةً زمنَه، وحيدةً أشدو القصب… وأغلقُ الباب”.
هذا ما ظننتُه لحظتذاك. خُيّل إلي أنني أغلقت الباب، بابَ مواويلِه/ التراتيل، التي ترفعُنا إلى أقاصي أشجانِنا، وتُنزلُنا إلى عمقِنا المهجور، وترمّمُ ذواتاً دهمَها الخريفُ ذات إغماضة، كما قرأتُ مشهدية ديوانه.
أمّا ما لم أدركه آنذاك، فهو أنّ البابَ بقي مواربًا ولم أُحسنْ إغلاقَه، لأنَّ الداخلَ إلى ديوان جورج غنيمة مرصودٌ، كما يبدو، على جنّيات القصيدة المسحورة، ذاتَ الذيلِ المضيء في ليلِ القافية المقدّس. وها هو اليوم يفتح مجددًا، يُشرعُ درفتَيه ليدعوَني إلى البحث عمّا تبقّى من أسرارٍ لم يتسنَّ لي، وقتها، اكتناهُ جوهرِها.
الدعوةُ هذه المرّة، وصلتني بحبّ كبير، وتشريفٍ لي بأن أكون من المشاركين في الاحتفاء بمنجزٍ إبداعيّ فكريّ فلسفيّ علميّ نوعيّ، مع باقة من أعلام الفكر والأدب. الدعوةُ هذه المرة كانت أكثرَ رهبةً لتجربتي المتواضعة، في الكتابة عن دراسة بهذا الثراء والعمقِ والمعرفة والتخصص.
فآثرتُ أن أحلّق في هذه الفضاءات الشاسعة المبهرة، كطيفٍ شفيفٍ يحدّق بوجلٍ من خلف الغيم، يرى ولا يُرى، كأنّه يخشى أن تنقلبَ المعادلةُ، ويصبحَ هو المقروءَ وليس القارئ. كيف لا، والكتاب هو ظلُّ كثيفٌ لكاتبةٍ كاشفةٍ أسرار النفس وخفايا الباطن المطمور؟ خشيةُ هذا الطّيف الشفيف من أن يُقرأ من السطر الأول، وكأنه أمامَ كرسيِّ اعترافِ كاهنةٍ أديبة، اتخذتْ علمَ النفس العيادي والتربوي طريقةً من طرق المتصوّفة لشفاء الأنفس الهشّة أمام الجمال.
لذا، كان الوقوفُ في حضرة كتاب “حجرُ المحبة ركيزةُ العمارة الصوفية”، كوقفةِ اكتشافٍ وبحثٍ وتأمّلٍ في هندسة هذا البناءِ المثلّثِ الأضلع:
الضِلع الأول: دراسةٌ ومقاربةٌ ألسُنيّة/ نفسية، الضّلع الثاني: تحليل الأبعاد الصّوفيّة، والضلع الثالث: قراءةٌ في ديوانٍ شعريّ.
كرّس هذا البناءُ المثلّث كتابَ “حجرُ المحبةِ ركيزةُ العمارة الصوفية” للأديبة والكاتبة والباحثة والأكاديمية أستاذة علم النفس العيادي والتربوي، والمعالجة النفسية والنقيبة السابقة الدكتورة إلهام الشعراني، كرّس الكتاب فتحًا فريًدا في نوعه الأدبي والعلميّ. فالكتابة التحليلية الأدبية بمنهج التحليل الألسني النفسي، ندَر حضورُها في مكتبتنا وعلى منابرنا وفي دراساتنا وأبحاثنا العربية، ما يدفعنا للاعتزاز بمنجز الدكتورة الشعراني، ولو أنها بتواضع الكبار علّلت أحد دوافع كتابة المنجز، والكتابة عمومًا، بارتباطها بتأثير النزعة النرجسية الذاتية على ما نكتب، كما ورد في مقدّمة الكتاب. وما يزيد اعتزازَنا بهذا المنجز، بالإضافة إلى فرادته، عمقُ محتواه، ورصانةُ بحثه، وتعدّدُ أبعاده، ورحابةُ آفاقه، والتزامهُ بالمعايير البحثية، وحرصُه على الأمانة العلمية، وشغفُه بالتفاصيل والجزئيات التي تشكّلُ روحَ النص. فضلًا عن التنقيبُ الخطير، بحبّ كبير، عن اللآلئ الشعرية المختبئة في حقولٍ من الرموز والكنايات والتوريات والدلالات والإشارات التي أجاد شاعرُنا توظيفَها في القصائد، فأجادت كاتبتُنا استخراجَ الضّوءِ من سياقاته الصّوفيّة المتناهية في الوجد. وجدٌ تجلّى في تلك النزعة الصوفية في اللاهوت المسيحي الذي يفيض به الديوان، كما تشير في متن الكتاب.
انطلاقًا من غنى هذا النوع البحثي وأهميته في العلوم والمعارف الإنسانية في العالم اليوم، استطاعت المؤلّفة أن تسخّرَ مداركَها البحثية والعلميّة المتخصصة في علم النفس، في مُناخات القصيدة وعوالمِ الشّعر، المتّصلة اتصالًا وثيقًا وحميمًا بعوالم النفس البشرية عبر اللغة واللسان والوجدان والانفعال والأحاسيس، في خطوة مقدامة وشجاعة يهابُها كثرٌ من الدارسين والباحثين والمتخصصين، وذلك لتداخل المجالات البحثية علميًاً وأدبيًا وإنسانيًا، ما يزيد إشكالية البحث تشعّبًا وغموضًا. رغم أن الألسنية La linguistiqueأصبحت اليوم مركز استقطابٍ بلا منازع في حقل البحوث الإنسانية، وانتهجت جميعُ العلوم الإنسانية حقلَ الألسنية، نظرًا لما يتمتّع به هذا العلم من تفوّقٍ على النزعات التعليمية والأحكام المعيارية، وذلك من خلال دراسته اللغةَ الإنسانية دراسة علمية تعتمد معاينة الواقع بعيدًا عن مؤثرات الزمن والتاريخ والعرق وغيرها.
خلق هذا التداخل المبتكَر للعلم والأدب واللغة، صياغة تجويديّة آسرة ومبتكَرة، شكّلت رحلةً شائقة، ماتعة، ومسرفة في الجمال في ثنايا الإصدار، بدءًا بعنوانه الرّحب المتضمّن سرّ الإنسانية الأكبر وهو المحبة، التي ترتكز عليها الصوفية وما تعنيه من النهج الإنساني الأعمق والأنقى حتى الفناء، مرورًا بلوحة غلافٍ تَشي بسفرٍ ملتبس إلى الذات والذات الكبرى، وتهيّئ للسّكنى بين دفّتيه مع أكثر العناصر سلامًا ونقاءً وضياء، ومع كائنات قصائد جورج غنيمة التي بنى بها عمارته الصوفيّة، بحجر محبةٍ جعلته دكتورة إلهام مدماك دراسةٍ ملهِمة كاشفة للحجُب الشعرية التي لا تُحجب على المبصرين والعارفين مثلها، كقول النّفري: ” فإن العارفَ كالمَلِك يبني قصوره من المعرفة فلا يريد أن يتخلى عنها” .
لم تتخلَّ كاتبتُنا عن الإشارات الكاشفة التي تقود إلى قلب المعنى، وإلى البداهة الأولى التي تخلّى عنها جلُّ من أغرقتهم رمال الحياة، فآلفوا التيه في صحرائها الكبرى. قادتها تلك الإشارات إلى مفاتيح بوابات الأسوار، وإلى كُنه المجاز والاجتياز، محوّلة قعر النفس البشرية المردومة بطين الأرواح التّعبة، إلى واحات تفيض بدفق المحبة في ديوان جورج غنيمة. فبين الدّال والمدلول، وبين الصّمت والنُطق، وبين المكان والزمان وطقوسِهما، وبين الضوء والظلّ وسيرتِهما، وبين المطلق والفناء، وبين أقنومي الحب واللّغة، فصولٌ لملحمة عشقٍ بدأها شعرًا الشاعر جورج غنيمة وأكملتها تحليلًا ورصداً وتبحّرًا الدكتورة إلهام الشعراني، مختصرةً هذا العشق بالأبيات الخالدة لسلطان العارفين الشيخ الأكبر ابن عربي:
لَقَد صارَ قَلبي قابِلاً كُلَّ صورَةٍ/ فَمَرعىً لِغِزلانٍ وَدَيرٌ لِرُهبانِ/ بَيتٌ لِأَوثانٍ وَكَعبَةُ طائِفٍ/ وَأَلواحُ تَوراةٍ وَمِصحَفُ قُرآنِ/ أَدينُ بِدَينِ الحُبِّ أَنّى تَوَجَّهَت رَكائِبُهُ/ فَالحُبُّ دَيني وَإيماني”.
في الختام، وعند الإطلالة من الشرفة الشاهقة لهذا البناء المثلّث الأضلع، يختبر النّاظرُ فضاءاتٍ مترامية كثيفة وشفيفة في آن، فيشعر بامتلاءٍ روحيّ يشبه ارتشاف الرويّ الأخير من قصيدة تأبى الاكتمال. فالصعودُ إلى تلك العمارة الممشوقة الأثيرية، يقود إلى مكامن المتعة والتحليق، والنّزولُ منه كمن يهوي ولا يسقط، ويظلّ معلقًا هناك كالواجد في المطلق.
هنيئًا لقصيدتك جورج غنيمة بحلولها في هذه العمارة، وهنيئًا لنا بمنجزِك الباسق المترف دكتورة إلهام. مبروك