بين خدعة لورانس وخديعة هوكشتاين
كتب عارف العبد
لم تخب مقولة كارل ماركس، عن التاريخ، حين اعتبر إن «التاريخ يعيد نفسه مرتين في المرة الأولى كمأساة، وفي المرة الثانية كمهزلة».
ويبدو اننا في منطقتنا، قد شهدنا المأساة الكارثية التي طبعت تاريخنا سابقا، وها نحن نشهد اليوم المهزلة الدرامية التي تسيطر على حاضرنا وتطبعه الآن من مختلف الجوانب.
فقد اتجهت كل الأنظار والاهتمامات، في الأيام الماضية، الى الكلام الذي صدر عن الرجل الأكثر صراحة وتجربة بين ساسة لبنان، في هذه الحقبة، وهو شيخ مشايخ الجنبلاطية الدرزية وليد كمال جنبلاط، الذي لم يتردد في القول أمام الخلوة الدرزية في بعدران، ان اللبنانيين خذلوا أو خدعوا من قبل الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين. وحين سُئل مرة ثانية عن الموضوع من قبل جريدة «النهار» عاد ليوضح من دون أن ينفي، القول «ربما خدعنا، هو وسيط، حاول مع الرئيس بري مساعدة لبنان… هو كان يطمح للوصول الى منصب وزير الخارجية، فيما لو وصلت الى الرئاسة المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، لكنها في المحصلة لم تصل».
لكن قبل كلام جنبلاط، المثير وحمّال الأوجه، كان الأخ الأكبر الفطن الرئيس نبيه بري قد نعى المبادرة الأميركية في نسختها المحدثة، التي حاول تسويقها الموفد الرئاسي الأميركي في زيارته الأخيرة قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية متخوّفا من أن تُستبدل غزة بلبنان.
طلبت إسرائيل، وربما ما تزال عند مطلبها، انها تريد الاحتفاظ بحرية الحركة لمراقبة آليات تنفيذ القرار 1701 عبر الطلعات الجوية.
سيكتب الكثير، عن مهمة هوكشتاين في لبنان في المستقبل، وستكشف تفاصيل لا نعرفها عنه، وعن الذي قام به. وهو الذي رعى الاتفاق التاريخي الخالي من الفوائد بين لبنان وإسرائيل، حول الحدود البحرية، والمسألة النفطية، والذي سُجل في الأمم المتحدة ورافقه جدل كبير وأسئلة وألغاز كثيرة ومتعددة.
لكن الصحافة الأميركية تولّت جانباً كبيراً من كشف جوانب مهمة من مهمة المبعوث الشخصي للرئيس بايدن الجندي الإسرائيلي، سائق الدبابة الذي شغل مهمة محامي إسرائيل في محادثات أوسلو.
ماذا فعل المواطن الإسرائيلي المولد عاموس هوكشتاين وماذا كان دوره؟ وهو الذي ولد في إسرائيل وفي عائلة يهودية أميركية مهاجرة إلى الولايات المتحدة. بعد ان درس في مدارسها الدينية، خدم عاموس في جيش الإحتلال الإسرائيلي في الأعوام 1992 – 1995، وفي سلاح المدرعات كأحد أفراد طاقم دبابة قبل انتقاله إلى واشنطن، لكنه لم يعد مواطناً مزدوجاً. كان مستشاراً للسياسة الخارجية لأعضاء الحزب الديمقراطي في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب التابع للحكومة الأميركية من عام 1994 إلى يناير 2001.
بالرغم من أدواره هذه قُبل عاموس من المسؤولين في بيروت، أن يكون وسيطا بين لبنان وإسرائيل لمتابعة الاتفاق الحدودي النفطي. وبعد إنجازه هذا، قبل لبنان وكبار السادة والمفاوضين فيه، والمشرفين على المصائر الوطنية، أن يستكمل هذا الوسيط المُداهن مهمته وعمله في مواضيع أخرى متصلة بالحدود ووقف النار والحديث عن تنفيذ القرار 1701 وما يحيط به.
ما يدعو للاستغراب المفجع، سؤال يتبادر الى الذهن بشكل مُلحّ، هل كانت إسرائيل ستقبل بعربي أو لبناني قاتل في صفوف المقاومة ليكون وسيطا معها في قضايا تخص ما تعتبره مسألة سيادية إسرائيلية؟
أكبر خدع هوكشتاين صاحب البدلات وربطات العنق الأنيقة، والشعر اللامع المصفف باتقان، هو حين سُمح له أن يصور ويزيّن للبعض ضخامة ومكانة موقعهم ودورهم، وقد انطلت الخدعة على كثر، وظن البعض انه قد أمسك بالأمور والملفات من رقبتها.
حين خاطب هوكشتاين صاحب «الضحكة الصفراوية» كما يقال في العامية، الرئيس نبيه بري أمام عدسات الكاميرا بلقب أنت الـ BOSS. لم يخطر على بال كثر ان هذا الكلام المعسول ظاهريا، إنما أخفى خلفه نوايا مبيّتة في تحقيق مصالح وأهداف إسرائيل، بترك لبنان ينام على حرير الحماية والضمانة الأميركية الزائفة، فيما مُرّرت لإسرائيل كل التسهيلات لكي تضرب ضرباتها من تحت الزنار ونازل، وصولا الى اغتيال السيد حسن نصرالله، وأن تصيب حيث تريد وبتغطية وحماية أميركية كاملة.
حسب وسائل إعلام أميركية، فان «عاموس أفندي» هو الذي حدّد وأوضح سبل الطريق، التي يجب أن تهتدي بها وتتبعها إسرائيل تجاه لبنان وحزب لله، وتوقيت التصعيد والضرب بيد من طائرات وقنابل خارقة من حديد وبارود.
حين قررت بريطانيا مطلع القرن الماضي، فسخ الولايات العربية عن السلطنة العثمانية كلّفت ضابط المخابرات في جيشها، الكولونيل توماس إدوارد لورنس، للتقرّب من الأمير فيصل النجل الثالث للشريف حسين. وقد تولى الضابط لورنس تزيين الطريق للعرب للانقلاب على السلطنة حيث انهارت فيما بعد الامبراطورية العثمانية وخُدع العرب شر خدعة ووئدت دولتهم الموعودة، ولقب الضابط الناجح في مهمته بلقب «لورنس العرب».
تُرى بماذا سيلقّب هوكشتاين بعد الآن؟
لقد خُدع لبنان أو خدع نفسه، انه قادر على إيلام إسرائيل وإرعابها، وإيقافها على رجل ونصف، متناسيا ان إسرائيل محمية بالمال والنفوذ اليهودي والصهيوني العالمي والأميركي، حيث الغطاء مؤمّن لأعمالها وجرائمها من أغلب الدول الغربية. وما تأييد وزيرة خارجية ألمانيا لحق إسرائيل بقتل المدنيين بحجة الدفاع عن نفسها، إلّا المثال الواضح على انعدام التوازن بين الدولتين المتواجهتين، على مختلف المستويات. وها هو لبنان متروك لمصيره وعزلته لكي يواجه نكبته الكبرى والواسعة والعميقة بقراه ومدنه وأبنيته المهدّمة ومصيره الكارثي من دون عون أو نجدة ذات أي قيمة.
المصدر: المدن